لا ريب إذا خرجت بريطانيا من النافذة أن تعود للدخول من الباب العريض. لكنها تشير للعرب وباقي الموعودين بمآثر فتح الأسواق على أنقاض الدول، إلى إمكانية الخروج الكبير. قد يبدو مثل هذا الخروج محكوم بالفشل، على ما يقول تلاميذ الخبراء في المؤسسات الدولية وأميركا وأوروبا. لكن قبل السعي للنجاح قد لا يمكن التحقق من الفشل.
ما يعترض عليه بريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي، سبقهم إليه الفرنسيون في الاستفتاء على دستور الاتحاد واتفاقية "ماستريخت" العام 1991. فحركة الرفض تعمّ أوروبا بالغة أوجها إثر ارتدادات أزمة الرهن العقاري والديون الملوّثة العام 2008، وفي أعقاب أزمة الديون اليونانية وبرامج التقشّف (يُطلق عليها اسم برامج الإصلاح) في البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا.
ما يسميه فرنسوا هولاند وحكومته "إصلاحاً لابدّ منه" بشأن الإطاحة بقانون العمل، هو خير تعبير عن دور الاتحاد الأوروبي في إزالة حقوق مُكتسبة بالعرق والدم طيلة مئتي سنة، من دون أن يستطيع سبعون بالمئة من الفرنسيين أن يحفظوا حق النقابات في التفاوض مع الحكومة وأرباب العمل على عقد جماعي، ومن دون أن يحفظوا جدولاً موحداً للأجور والتسريح من العمل.
المفوضية الأوروبية ترسم السياسات وتحيلها إلى السلطات في كل بلد أوروبي (وحتى خارج أوروبا في اتفاقيات الشراكة) لإقرارها وتنفيذها كأمر واقع، ولا تترك للمواطنين في بلد كفرنسا غير الاختيار بين "إصلاحات" هولاند أو "إصلاحات" أكثر تطرفاً يعد بها مرشح اليمين آلان جوبيه. بينما تختفي المفوضية كالشبح عن أعين المراقبة والمحاسبة، وراء تطويبها "هيئة خبراء" تستند إلى العلم الصافي ولا تخضع للانتخابات أو للبرلمان الاوروبي الذي تبقى معظم قراراته حبراً على ورق في القضايا الشائكة ومنها التصويت المتكرر لمعاقبة إسرائيل.
الاتحاد الأوروبي هو اسم على غير مسمى، كما حلم به فيكتور هيغو العام 1851 من أجل التضامن السلمي بين الشعوب ومن أجل المزيد من الحقوق. وفي هذا الاطار سعى الزعيمان الفرنسي شارل ديغول والألماني كونراد أديناور، لتوحيد أوروبا قبل أن تحط المجزرة العالمية الثانية أوزارها بل بسبب عدم تكرار المجزرتين الأولى والثانية.
على هذه القاعدة الأساس نشأت "اتفاقية الفحم والصلب" في أوروبا الغربية العام 1951، بما يرمز الصلب والفحم وقتها إلى تعطيل أدوات صناعة الحرب. لكن شارل ديغول الرئيس أخذ الاتفاقية للاتجاه إلى توحيد أوروبا في السياسة الخارجية كخيار ثالث بين المعسكرين. ودعا إلى "أوروبا من الأطلسي إلى الأورال" شاملاً روسيا وأوروبا الشرقية، على خلاف مع الحلف الأطلسي.
الاتحاد الأوروبي الوليد في دستور "ماستريخيت" واتفاقية "شينغين" العام 1985 (دخلت حيز التنفيذ بعد عقد كامل) هو سوق مشتركة لحرية الرساميل والعملة الموحّدة (اليورو). فهو ملحق بالتبعية للسياسة الخارجية الأميركية وملحق بالتبعية للحلف الأطلسي في السياسة الدفاعية.
فالمفوضية سحبت من الحكم في الدول الأوروبية سلطة القرار السياسي، وسحبت من المواطنين صلاحية المحاسبة في صناديق الاقتراع وفي الشارع بعدما كانت مظاهرة معتبرَة تُسقط حكومة وتُلغي فرمانات. الهدف المُعلن هو إلغاء دور الدولة الراعية للحقوق، بدعوى أن حرية السوق والتجارة والاستثمار الأجنبي المباشر هي اليد الخفية الأكثر حداثة للمواطّنَة المعولمَة. لكن في البلدان التي تصفها بـ"المتخلفة" قد لا تكفي إيديولوجية السوق والتجارة للقضاء على الدولة الوطنية. وما يعجز عنه التبشير قد يحتاج إلى تمهيد في التدمير، كما تجتاح الدول العربية موجة الأرض اليباب. إنما على العظم تأمل شركات أميركا وأوروبا تشييد الصروح "برؤية 2030" في التحوّل من الريع العقاري إلى الريع الافتراضي من الخليج إلى سوريا والعراق، "حلاً للازمة".
البريطانيون الداعون إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، هم كباقي الأوروبيين المتلوعين من وعود عرقوبية تسميها أميركا وأوروبا سبُل الاستقرار والازدهار. وسواء نجحت الشركات وخبراؤها في كسب معركة بقاء بريطانيا أم خسرت، قد تكون الفاشية أكبر المستفيدين من استغلال تسلّط الاتحاد الأوروبي للنفخ في إوار العنصرية العرقية البيضاء كأحد الحلول الفاشية لأزمات تنخر في هيكل القارة العجوز. لكن بريطانيا لا تذهب بعيداً في حال فوز الخروج من الاتحاد، فهي من الناحية الأخرى "أنكلو ساكسونية" مرتبطة بأوروبا الاقتصادية عن طريق الشراكة الجديدة مع الولايات المتحدة عبر ضفتي الأطلسي. ولا ريب إذا خرجت بريطانيا من النافذة أن تعود للدخول من الباب العريض. لكنها تشير للعرب وباقي الموعودين بمآثر فتح الأسواق على أنقاض الدول، إلى إمكانية الخروج الكبير. قد يبدو مثل هذا الخروج محكوم بالفشل، على ما يقول تلاميذ الخبراء في المؤسسات الدولية وأميركا وأوروبا. لكن قبل السعي للنجاح قد لا يمكن التحقق من الفشل.
المصدر: الميادين نت
[email protected]
أضف تعليق