لسنا أقليّة وإن كان قليلًا عديدنا. وبالتأكيد لسنا أقليّة طبيعية في وطننا. إنما تمّ تقليل عددنا نتيجة اعتداء سافر وعمليّة تطهير عرقيّ كبرى كان أوجها خلال عام 1948. ونتيجة قرار حكومة إسرائيل، مباشرة بعد قيام الدولة، في إحدى جلساتها الأولى بعدم السماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى منازلهم وديارهم، وأعطت الأوامر للجيش بتطبيق هذا القرار ومنحته الإذن بإطلاق النار على كل فلسطينيّ يحاول العودة إلى بيته. بالمقابل فتحت الأبواب لكل يهوديّ يرغب بالهجرة إلى دولة إسرائيل، واستدعتهم وحرضتهم على ذلك، ودبّرت اتفاقيّات مع أنظمة عربية للضغط على يهود عرب من أجل ترك أوطانهم والهجرة إلى إسرائيل، بل وقامت بالسرّ بتدبير اعتداءات على تجمّعات يهوديّة في أوطانها لإرهابها وإرغامها على الهجرة إلى الدولة اليهوديّة. بذلك حسمت إسرائيل المعادلة الديموغرافيّة لصالحها واصطنعت قسرًا أغلبيّة يهودية وأقليّة فلسطينيّة.

لا نعرف إن كانت النسب القائمة في دولة إسرائيل، حوالي 80% يهودا و 20% عربًا، منذ استقرار الأوضاع فيها حتى اليوم قد جاءت صدفة، أم أنها كانت، إلى حدّ ما، مخطّطّة. ما نعرفه أن الحركة الصهيونية بكل أطيافها كانت على استعداد لتحمّل أقلية عربية (إن قالوا عربية فهي إذًا قوميّة؟) بداخلها تعيش تحت سلطة الدولة العبرية. لم تُنشر حتى اليوم مستندات تكشف عن نسبة العرب "المُطاقة" في نظر الصهيونيّة، ولكن اتفاقًا يسمّى"اتفاق القدس 1940"- وهو اتفاق لم يوقّع ولم ينفّذ وإنّما نوقش وصيغَت مسوّدته بين منظمة "ليحي" الصهيونية وحكومة إيطاليا الفاشية- وينصّ على أن تعترف وتدعم وتساهم إيطاليا في إقامة دولة عبرية في فلسطين وتساعد في نقل يهود أوروبا من بلدانهم إلى الوطن العبري المتجدّد مقابل منح إيطاليا موطئ قدم ونفوذ في الدولة العبرية العتيدة- ذكر في أحد بنوده الـ 22 "أن الطرفين متّفقان على إنشاء أغلبيّة يهوديّة (80% على الأقل) والعمل على ثبات التركيبة السكانيّة في الدولة العبرية بواسطة تبادل سكانيّ". صحيح أن منظمة "ليحي" كانت جناحًا صغيرًا في الحركة الصهيونيّة، وصحيح أنها لم تكن صاحبة القرار، وصحيح أنّ هذا الاتفاق لم يُوقّع ولم يُفعّل في نهاية الأمر، ولكن لا دخان بدون نار ولا شكّ أنّ هذه الفكرة والأرقام المذكورة فيها لم تنشأ من فراغ. وما جاء في هذا البند بالتحديد قد تمّ تنفيذه على أرض الواقع عام 1948 على يد داڤيد بن چوريون.

أصبح مصطلح "الأقليّة القوميّة" للإشارة إلى الفلسطينيين داخل إسرائيل رائجًا ومتّبعًا في الأدبيّات الفلسطينيّة، كما أن انتزاع حقوقنا كأقليّة قوميّة صار مطلبًا مركزيًّا في الخطاب السياسيّ في الداخل، بل ويعتبر راديكاليًّا. ولكن ورغم الإغراء الكامن فيه يجدر التوقف عند هذا الاصطلاح وإعادة النظر في تبعاته علينا كشعب فلسطينيّ، أو على الأقل توخّي الدقة في الهدف من استعماله كعنوان لمطلب سياسيّ أو في تبنّيه كموقف نضاليّ، لما قد يحمل بين طيّاته من خطورة استراتيجية. فالمطالبة بحقوقنا كـ"أقليّة" قوميّة تعني إقرارًا بمكانتنا – رغم أنها قسريّة- كأقليّة وتقبّلًا لها، مما قد يفسّر بأنه تسليم بنتائج النكبة وموافقة على كوننا أقليّة في الحاضر وفي المستقبل.

وعندما نعترف بأننا نحن الأقلية ونوقّع على ذلك بأيدينا فإننا نتقبّل ونعترف في الوقت نفسه بأنهم هم الأغلبيّة. وعلى هذه التعريفات، إن تمّت، سوف تُصقل الهوية وتُبنى الرؤى السياسيّة. وستنشأ الأجيال القادمة مرغمةً على تذويت ثقافة الأقليّات والتسليم بمكانتها الهامشية في وطنها وتهذيب سلوكها أمام الأغلبيّة، وسيكون سقف نضالها محدودًا في حقوق الأقليّات وستُقمع طموحاتها الوطنيّة الأكثر شموليّة.
إنّ موافقتنا على تعريفنا كأقلية قوميّة يعني التزامًا سياسيًّا وأخلاقيًّا وقانونيًّا بحدود الإطار السياسي الذي تقبلناه للتوّ، واعترافًا بنظام الحكم القائم وتنازلًا مستدامًا عن حقنا في السلطة. وبالإضافة إلى ذلك، ألا يُفسّر تسليمنا بأننا أقليّة كتعهّد بألّا نكون أغلبية، وبالّا نقوم بنضال قد يجعلنا أغلبيّة؟ ألا يعني هذا تنازلًا عن حق العودة، مثلًا؟ لأن العودة كفيلة بنسف ونقضِ فكرَ ووضعيّةَ "الأقليّة القوميّة". فكيف يستوي الأمران؟ كيف يمكن الادّعاء من جهة بأننا نطالب بعودة اللاجئين ومن جهة أخرى نطالب بقوننة حقوقنا كأقليّة؟

إن كنّا في الوضع الحالي، الخالي من أيّ تعريف إسرائيليّ رسميّ جامع لنا، نعيش المفارقة بين كوننا أقليّة ظاهريًّا وكوننا أكثريّة وجدانيًّا، فإن مأسسة هذه المكانة لن يحل الإشكاليّة، بل يمكن أن يزيدها تعقيدًا، حتى لو أضفنا إلى التعريف مصطلح الأصلانيّة. لأنه مع قليل من الوعي السياسي سرعان ما سيتفجّر الصدام بين كذبة الأقليّة وعنفوان الأصلانيّة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]