سأخرج عن عادتي في الكتابة من خلال هذا المقال المقتضب. وإن كنت وسأبقى مهتما بتاريخ وطننا الغالي، وشعب هذا الوطن العظيم، إلا أن أحداثا من حولنا، والتي ستصبح تاريخا في كتاب تاريخ هذا الوطن، تدفعني إلى الكتابة عنها، فكيف بالحري عن مهرجان فني لفت الأنظار محليا وعالميا بما قدمه وانجزه وتركه من أثر كبير على المشهد الفني عموما. إنه مهرجان "أوتارشيحا 2".

ترشيحا بلدة صغيرة في شمالي فلسطين، لا تبعد عن الحدود مع لبنان سوى بضعة كيلومترات. عُرفت هذه البلدة عبر العصور بأنها مركز للحرفيين، حيث كان يتوافد إليها من القرى المجاورة أعداد كبيرة من مستهلكي الأدوات الزراعية المشغولة بالطريقة العربية، او ما يعرف بلسان الناس "حدادة عربية"، وكذلك "نجارة عربية"، وصناعة السكاكين اليدوية التي لا تزال قائمة، وتعتبر من أواخر الحرف اليدوية، وصياغة الذهب وصناعته بفنون زخرفية نقشية جميلة، وغيرها من الصناعات التقليدية يدوية الصنع. وهذه الحرف ساهمت في تعزيز الاقتصاد المحلي في القرية، وبالتالي تعزيز القدرة المالية لمعظم العائلات التي عملت فيها وارتزقت منها.

لكن، وبفعل التغييرات السياسية والاقتصادية والصناعية واختراق التكنولوجيا أسس ومضمون ونهج حياة كافة شرائح المجتمع الفلسطيني، والتي لم تقفز عن ترشيحا، فإن هذه الحرف تقلصت إلى أن اختفى معظمها، وبالتالي أقفلت محلات صناعتها، ما انعكس سلبا على الحالة الميدانية للحارة التي تجمعت فيها المشاغل والمصانع الحرفية. وتحولت أزقة البلدة القديمة في ترشيحا إلى حارة اشباح تقريبا...

لكن، ما حصل ولثلاثة ايام متواصلة في الأسبوع الماضي أعاد الحياة إلى حارة الصُناع والحرفيين وجوارها. حيث انتشرت منصات التمثيل والغناء العفوي، وفتحت مطاعم البلدة أبوابها على مدار اربع وعشرين ساعة، ونصبت منصة ماردة ارفقت بها سمعيات ومرئيات وضوئيات اشبه بتلك التي نراها في باريس ولندن ومونتريال واستانبول...

تحولت ترشيحا في ايامها الثلاثة إلى حركة دؤوبة في تقديم برامج فنية متميزة كالرسم والتمثيل والغناء والعزف والاشغال اليدوية والحكايات والذكريات.. كلها في مكان واحد، قلما شهد وطننا مهرجانا كهذا.

اثناء السير في أزقة البلدة وملاحظة الدكاكين والمحلات القديمة تفتح أبوابها وتدع الناس يدخلونها ويتلمسون بعضا من الأدوات القديمة والتقليدية التي لن يروا مثيلا لها في امكنة أخرى، بما فيها المتاحف التي أسستها وأقامتها إسرائيل لتخليد تراثها، وليس تراث أصحاب البلاد الأصليين. تحولت ازقة ومحلات البلدة القديمة في ترشيحا إلى متحف حي، إلى حيز ثقافي ديناميكي حجارته عادت إلى النهوض من نومها القسري الذي فرضته آليات وأدوات الهيمنة التابعة للسلطة سواء المحلية او العامة. حجارة المكان تنطق وتجعلك تتكلم معها لتكتشف مخزونها الحضاري الذي تحمله بصبر ومحبة للأجيال الشابة... كان المكان على موعد مع اهل البلدة من ساكنيها ومن المهاجرين عنها محليا واغترابيا، ومع محبي التراث والفن والثقافة والمكان من أبناء شعبنا من قرى الجليل ومدن الساحل وبعض قرى المثلث... هذا الموعد رسمه أعضاء "جاليري الثقافي" شباب ترشيحا الذين لم ينتظروا مِنّة وفُتاتا من سلطة تحاول الهيمنة على المشهد الاجتماعي والثقافي بعد نجاحها في فرض اجندتها السياسية والإدارية... قال شباب ترشيحا نحن أبناء الثقافة، ونحن نصنعها وننتجها... ولن نبقى واقفين على الحياد نتفرج ونتحسر... هذه اليقظة المتميزة هي عينها التي أحيت المكان وجذبت الانسان من كل حدب وصوب إلى الحضور لمشاهدة الفن بأنواعه والمستوى الأدائي والإبداعي الراقي.

شاركت في يومين من الأيام الثلاثة وانكشفت على مستوى عال من التخطيط والتفكير الإبداعي، ومعرفة يقينية لسد عطش شرائح كثيرة من شعبنا لهذا النوع من المهرجانات. وتبينت مدى التماسك الاجتماعي والاخلاقي بين أبناء البلدة الواحدة على مختلف مشاربهم الدينية والسياسية والاجتماعية، فترشيحا تجمعهم تحت جناحيها، وكفى في هذا الأمر درسا لباقي القرى العربية بل للعالم العربي الذي يملك الطاقات والموارد لتحقيق شيء مما يتوجب أن تقدمه لجماهيرها.

كان اليوم الثاني متألقا بفرقة معهد كاترين للموسيقى التي قدمت مقطوعات موسيقية وغنائية متميزة ووفقا للأصول الفنية العلمية، حيث غنت الفرقة أغان وطنية فردية وجماعية تفاعل معها الجمهور بمحبة عميقة، وأغان أو قصائد للشاعر الكبير محمود درويش قام بتلحينها المايسترو د.تيسير حداد رئيس الفرقة ومدربها الأول.. وهذه المرة الأولى التي تقدم الفرقة هذه القصائد مغناة... ومتّع أذاننا الفنان الترشيحاني المغترب مارون خوري بعزف رائع ومهني راقي على آلة الفلوت. وكان دور الحضور الذي بلغ قرابة الالفي مشاهد ومستمع منتشرًا على مساحة ثلاثة دونمات او اكثر أو اقل ... الاستجابة الجماهيرية الرصينة والمنظمة والهادئة بيّنت كم هو شعبنا يعرف قيمة الحياة، لأنه ابن الحياة...

أما في اليوم الثالث وهو الأخير، فتدفق الآلاف من متعطشي الثقافة والفنون، ووردوا إلى ترشيحا ليمضوا ساعات ولا أجمل في العمر... فرقة القنطرة بقيادة ابن ترشيحا الفنان العالمي الكبير سيمون شاهين... وكانت ساعات من عشق الفن عاشه اكثر من الفين وخمسمائة مشاهد ومستمع تفاعلوا بصورة متميزة عكست حقيقة المكان وأهله وتطلعاتهم.

مخزون ترشيحا الثقافي والفني والموسيقي الذي زرعه الأهل ووظفوه في الأبناء على مدى عقود طويلة انطلق بقوة ليبعث الروح في قلوب الناس الرازحة تحت نير القمع والظلم والقسوة والعنف.

اوتارشيحا، مهرجان لا يقل عن مستوى المهرجانات الدولية، بالرغم من قلة مصادر الدعم المالي، إلا أن الرغبة والإصرار والتصميم أغلى من كل كنوز الدنيا.

هنيئا لترشيحا وأبنائها، وهنيئا لشعبنا الذي يعرف العطاء لأنه شعب يملك ثقافة ضاربة في عمق أرض هذا الوطن وتاريخه... وإلى لقاء متجدد في المهرجان القادم. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]