توهم كثيرون أن المقاومة مرهونة فقط بالرصاص والدم، وأن القتال وخوض المعارك هو كل درجاتها وأشكالها، أو هو مبتدأها ومنتهاها، وأنها في كل الأحوال عمل عضلي سيده الجسد، وأن دور الذهن فيه يقف عند حدود جمع المعلومات عن العدو وتصنيفها وتحليلها، ووضع الحيل والتكتيكات الفنية للمعارك، أو استخدام أساليب الحرب النفسية في التأثير على الخصم، بالكيد له وقهره وإذلاله معنوياً، تمهيداً للنيل منه في ميدان المعركة.

لكن إمعان النظر والتدقيق والإنصات لصوت الحق والحقيقة يبرهن على أن فعل المقاومة يدور على جبهات عدة، غير مقتصر على وجهة بعينها، ولا طرف بذاته. وإذا كانت مقاومة المستعمر والمحتل والغريب الغاصب هي الأبرز والأعلى صوتاً، والأكثر طرحاً، فإن هناك ثلاث جبهات أخرى تدور عليها معركة حامية للمواجهة، لا تقل أهمية بأي حال من الأحوال، عن التصدي للمستعمر، أو الدفاع عن سيادة الوطن واستقلاله وحريته، بل إن فيها ما يقي الأوطان من قابلية الغزو والاستغزاء، ويصونها من أن تكون لقمة سائغة في فم أي طامع.

والجبهة الأولى هي مقاومة الحاكم الجائر، لرده عن ظلمه وطغيانه، ودفع الناس إلى إقامة العدل، الذي تتقدم به أمم حتى ولو كانت فاسقة، بينما تتردى من دونه أمم حتى لو كانت مؤمنة.

والجبهة الثانية هي مقاومة الأفكار المتخلفة والتقاليد البالية والأعراف المتحجرة المغلوطة. وهذه الجبهة هي الأعرض في تاريخ الإنسانية، والأكثر تأثيراً مع الزمن. فالثورات المسلحة والانتفاضات العنيفة والتمردات الدامية يمكن أن تحدث أثراً سريعاً، لكن معطيات التاريخ تقول بجلاء إن النخب التي تقفز إلى الإمام في ظل الأوضاع التي تعقب الثورات والهبات يمكن أن تعود إلى ممارسة ألوان فاقعة من الاستبداد والفساد، على غرار تلك التي زالت. وكأن مسيرة التاريخ هنا تنطبق عليها العبارة الشهيرة التي تقول "كل الذين لعنوني، اتبعوا خطاي، ثم ترحموا علي" .

والجبهة الرابعة هي مقاومة أو مجاهدة النفس، التي هي أمارة بالسوء، وملهمة بالفجور قبل التقوى، إلا من رحم ربي. ومقاومة النفس تعني كما يقول القشيري في رسالته الشهيرة "فطمها عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات" وهي في نظره "رأس العبادة"، وجوهر الإسلام وسره الأعظم، مستنداً إلى إجابة بعض الشيوخ الثقاة عن معنى هذا الدين بقولهم "ذبح النفس بسيوف المخالفة".

ورغم أهمية كل ما سبق ذكره فإن المقاومة أعرض وأعمق من هذا، فهي جوهر الحياة نفسها، التي لولا المجاهدة والدأب والإصرار والرغبة في التقدم إلى الأفضل ما كان لها أن تمضي في طريقها.

إن الناس لا يسمعون كثيراً عن المقاومة إلا بعيد الحروب وأثنائها وأيام الاحتلال وكذلك في معرض الرد العملي على التسلط والاستبداد، مع أنهم لو أمعنوا النظر في حياتهم، وفي مفردات الطبيعة، وكل شيء يجري ويتم حولهم، بأيديهم أومن بصنع غيرهم، لاكتشفوا أن الحياة نفسها خيار ناصع جلي للمقاومة. فنحن نحيا لنقاوم الفناء، ونتوالد ونتكاثر لنقاوم الانقراض، ونتكلم لنقاوم الصمت، ونتعلم لنقاوم الجهل، ونتداوى لنقاوم المرض، ونكدح ونكسب لنقاوم الفقر والعوز، ونفرح لنقاوم الحزن، ونعمر لنقاوم الخراب، ونبني لنقاوم الهدم، ونجمل أنفسنا وما حولنا لنقاوم القبح، ونقبض على الحق لنقاوم الباطل فيزهق أو يتقهقر، ونفعلالخير لنقاوم الشر الطافح في كل مكان وفي أي لحظة.

وجسدنا نفسه يقاوم بعضه بعضاً، فالمخ يكبح جماح الغرائز والعواطف إن تعدت حدودها الطبيعية، والعاطفة تناضل ضد التبلد والتحجر الذي يجعل الإنسان يشبه الجماد، وضد التجرد الذي ينزع عن الإنسان مشاعره الفياضة ويحوله إلى آلة، وجهاز المناعة يقاوم المرض، فتدخل كرات الدم البيضاء في معارك حامية ضد الميكروبات والجراثيم حتى تتغلب عليها أو تهلك دونها، والكبد يكافح ضد السموم التي تتسرب إلى الجسم مع المأكولات والمشروبات والتنفس، والإرادة التي هي طاقة تمتزج في صناعتها كل قوى الجسد، المحسوسة واللامحسوسة تقاوم أسباب القعود والرضوخ والتراخي والتفلت كافة.

وكل تقدم حققه الإنسان في هذه الحياة قام على أكتاف المقاومة، التي تبدأ بكلمة "لا" الرافضة لقبول الأمر الواقع إن كان متخلفاً أو مهيناً أو كريهاً. وكل ما يجري حولنا نبت من رحم المقاومة، فالإنسان قاوم التصاقه الدائم بالأرض وجاذبيتها القوية فحاول أن يطير، وراح يجرب الطيران من دون كلل ولا ملل، ابتداء من عباس بن فرناس الذي ثبت أجنحة في جسده وانتهاء بالمركبات الفضائية التي تجول على الكواكب مروراً بالأخوين رايت اللذين اخترعا طائرة بدائية بسيطة، ها هي تتطور حتى تصل إلى الحال التي هي عليه الآن، في مقاومة لسلطان المكان على الناس. وقاوم الناس المسافات الطويلة بين القارات الست بثورة عارمة في مجال الاتصال، حولت العالم بأسره إلى قرية صغيرة.
وبالطريقة نفسها تقاوم كل الكائنات، فالنمل يقاوم البرد بتخزين قوته أيام الصيف، والأرانب البرية تقاوم أعداءها من الحيوانات المفترسة بحفر الجحور الطويلة في الأرض، والقنفذ يقاوم بشوكه الأفواه المتأهبة لالتهامه، والسلحفاة تقاوم بجلدها السميك، ويقاوم الجمل نعومة الرمل بخفيه الطريين المفرطحين القويين في الوقت نفسه، وفي المياه الدافقة تقاوم بعض الأسماك الصغيرة والرخوة بضخ شحنات كهربائية تبعد عنها الأسماك الكبيرة، أو تحتمي بالصخور البحرية المستقرة في الأعماق.


والأمر نفسه ينطبق إلى حد كبير على الجماد، فالشادوف يمتلئ بالماء ويقاوم كتلة الحجر المثبتة في الطرف الآخر، وهذه الحال متكررة في كل الروافع، فهناك ذراع القوة وذراع المقاومة، وكلما كان الأول أقصر من الثاني سهلت المهمة على الإنسان، والعكس صحيح تماماً، وتتعدد أنواع هذه الروافع، فتتوزع عليها الأدوات والآلات التي نستخدمها في حياتنا اليومية، وتقع عليها أعيننا في كل مكان، وفيها جميعا تتجلى كل معاني المقاومة.
والحياة كلها يترتب بعضها على بعض أو يقاوم كل منها الآخر، فيدفع الله الناس بعضهم ببعض حتى لا تتهدم صوامع وبيع، وتتغذى الحيوانات في الغابات على بعضها البعض، وكذلك الحشرات والطيور والزواحف، حتى لا يختل التوازن البيئي، ويتدخل الإنسان ليحمي الأرض الخصبة من التصحر، ويمنع الأطعمة من التعفن بالتبريد والتمليح والتسكير والتجفيف والتدخين والتخليل. وهناك قول مأثور منسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يجيب فيه عن سؤال حول أشد جند الله فيقول: "الجبال، والجبال يقطعها الحديد، فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد، فالنار أقوى، والماء يطفئ النار، فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء، فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى، والإنسان يتكفؤ الريح بيديه وثوبه، فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان، فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم، فأقوى جند الله الهم يسلطه الله على من يشاء".
وهذا الترتيب العجيب الذي يتداخل فيه المادي مع المعنوي يتأسس على المقاومة، فكل شيء يدفع ما قبله، في سلسلة قد تستدير في حياتنا الدنيا ولا تنتهي، إذ يمكن مقاومة الهموم بالاستغراق في عمل مضن وشاق، ينجذب إليه كل كيان الإنسان تماماً، وقد يكون هذا العمل هو تفتيت الصخر، وتكسير الأحجار، كما يفعل السجناء، فنعود إلى النقطة الأولى، ونبدأ منها دائرة دنيوية جديدة، تنطوي على أشكال وصنوف ودرجات لا تنتهي من المقاومة.

 

المصدر: الميادين

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]