رحم الله ميكياڤيلي وبئس ذلك القضاء ولم يفرج عن عماد البرغوثي كما كان متوقعًا منذ أواسط العام المنصرم شرعت أجهزة القضاء والقدر الاحتلالية بمواءمة جاهزيّتها ومعدّاتها لمواجهة هجمات جحافل "الفسابكة" و"التويتريين" المناهضين للاحتلال
لم يتردد ممثل الادعاء العسكري للاحتلال في إعطاء رده الواضح لقاضي محكمة الاستئناف في معسكر عوفر جازمًا: "بأننا قمنا بفحص جميع البيّنات المكشوفة والمتوفرة في ملف الدكتور عماد البرغوثي وخلصنا إلى استنتاج بأنها غير كافية لتقديم لائحة اتهام بحقه بتهم التحريض، فما كتبه على صفحته الخاصة في الفيسبوك لا يرقى لتثبيت التهمة ولا يضمن إدانته في المحكمة، وعليه فالنيابة العسكرية تصر على ضرورة إبقائه في السجن لمدة ثلاثة أشهر كما أمر القائد العسكري حين وقع على أمر اعتقاله الإداري، فوجوده وراء القضبان كفيل بدرء خطورته وتحييد إمكانية مساسه في أمن وسلامة الجمهور".
لم يقتنع القاضي برد النيابة وحاول أن يشرح للمدعي العسكري الذي كان يرافع بحماس احتلالي فولكلوري، أنه لا يجد سببًا مقنعًا لإبقاء الأسير في السجن لا سيما وهو يعمل محاضرًا معروفًا على مستوى كبير، فالتعبير عن الرأي من خلال صفحة خاصة بمواطن في واحدة من شبكات التواصل الاجتماعي لن يكون سببًا كافيًا لسجن ذلك الشخص إداريًا، حتى إذا لم نستسغ ما كتبه أو صرّح به.
مع نهاية المرافعات في ظهيرة يوم الخميس الفائت قرر القاضي، والذي يعمل في حياته المدنية محاميًا، قبول استئنافي وقضى بإبطال أمر الاعتقال الإداري بحق عماد البرغوثي على أن يدخل قراره حيّز التنفيذ يوم الأحد الذي وافق 29/5 المنصرم.
رحم الله ميكياڤيلي وبئس ذلك القضاء. لم يفرج عن عماد البرغوثي كما كان متوقعًا ففي ساعات الصباح الباكر سُحب عماد من سجن عوفر إلى مقابلة رجال الأمن، وأخضع إلى جلسة تحقيق قصيرة، ومن عندهم نقل مباشرة إلى قاعة المحكمة العسكرية في عوفر ليسمع هناك أن النيابة العسكرية تقدمت ضده بلائحة اتهام طويلة عريضة تنسب له فيها تهمة التحريض، وتطالب بإبقائه في السجن حتى نهاية الإجراءات القانونية ضده.
من مراجعة لائحة الاتهام تكشفت القصة بعريها وخبثها وعبثيتها. صفحته الخاصة على الفيسبوك تحولت، بقدرة قاهر قامع، للائحة اتهامه، وكل ما نشره عليها صار بعرف الاحتلال مادة تحريضية خطيرةً. فالنائب العام قام، عمليًا، بنسخ "بوستاته" التي كان يكتبها، في مناسبات مختلفة، معبّرًا عن رأيه في حدث استفزه أو حادث آلمه أو حديث لم يبق لصبره حظًا فنتأت أشواكه شوقًا وأماني وغضبًا.
في الواقع لم تكن قضية الدكتور عماد البرغوثي هي الأولى، ولن تصبح الأخيرة، فمنذ أواسط العام المنصرم شرعت أجهزة القضاء والقدر الاحتلالية بمواءمة جاهزيّتها ومعدّاتها لمواجهة هجمات جحافل "الفسابكة" و"التويتريين" المناهضين للاحتلال، والذين مضوا يقارعون موبقاته ببوستاتهم ولايكاتهم وأشعارهم وكاريكاتيراتهم وما شابه، الجهات المختصة استعدت في مسعاها للتصدي لهذه الظواهر كما يليق بخبرة احتلال لا يشيخ بل سيشرف على خمسينه بعد قليل وهو بكامل رصاصه والغطرسة.
فبعد أن ألِفت شوارع فلسطين السكينة وصار ليلها ينام وهو يرضع الفحمة حتى التعب، وصحت أجيال اليوم على الأخضر وهو ينبعث في غزة ومن قوس سمائها في الضفة ينزلق قزح، تجرّد المشهد الفلسطيني، عمليًا، من غبار البيادر وتعرّى حتى من طيش الفَراش. الحياة في فلسطين، الكأنها محتلة، صارت تلاك برتابة السواقي وبسأمها، وقواميس شعبها تنكمش وفي مجالسها تتكسر اللغة ولا تنتفض، الأفعال تجز وترحل، فلا انطلق ولا اندفع ولا تظاهر ولا قاوم ولا احتشد، كلّها صارت أفعال ناقصة لا تأتي إلا بصيغة الماضي.
"الصاع بدّو صاعين والرطل بده رطل وأوقية"، قالت عجائزنا فنسينا نحن وهم حفظوها وفعلوا. إنه عصر الربيع والثورات الممكننة، قال مفكرونا وأفتى العلماء فأجادوا وأوهموا، وغردّت وراءهم أجيال و"ليّكوا" فناحوا وأشجنوا، بادلوا وتبدّلوا واستبدلوا: فلا شجب ولا احتجاج ولا غضب ولا أسف، لا أنهار من عرق ولا عيون تذرف الملح ولا تتجمل، بل هي ساحات حبلى بعجزها وبرعد الغيب ومقاه بفيسبوكاتها تتفجر.. وإسرائيل محتلة، بصاعيْها، على كل ناصية تتربص وفي محاكمها تقضي وتتجبر.
لقد تزامن موعد تقديم لائحة الاتهام بحق عماد البرغوثي مع تقديم النيابة لمجموعة لوائح مماثلة، ربما كان أبرزها ما قدّم بحق الأسير سامي الجنازرة والذي خاض اضرابًا طويلًا عن الطعام ضد اعتقاله إداريًا .
ففي حركة مشابهة لما جرى مع عماد البرغوثي أبطلت النيابة العسكرية أمر الاعتقال الإداري بحق الجنازرة، وأنزلت ضده لائحة اتهام نسبت إليه فيها تهمة التحريض بعد أن نسخت، جريًا وراء موضة العصر، جميع بوستاته المنشورة على حسابه في الفيسبوك، فكل زفرة منه أمست تهمة، وكل تنهيدة صارت عثرة.
وعلى جبهة أخرى تزامنت هذه التطورات مع إعلان لافت وهام نشرته جمعية "بتسيلم" الإسرائيلية والناشطة، منذ ربع قرن، في متابعة بعض جرائم الإحتلال، وذلك من خلال قيامها بتقديم مئات الشكاوى وتحويلها إلى عناية الجهات العسكرية المختصة وفي مقدمتها النيابة العسكرية العامة والمستشار القانوني للحكومة.
"ورقة تين الإحتلال" هكذا أسمت "بتسيلم" تقريرها والذي أجملت فيه تاريخ عملها منذ خمسة وعشرين عامًا لتعلن في نهايته وللمرّة الأولى : كفى.. لن نتوجه إليكم بعد اليوم، فأنتم لستم أكثر من ورقة تين تتستر على جرائم جيش الاحتلال، ونحن في "بتسيلم" استدركنا، بعد ربع قرن، أننا كنا عمليًا وكلاء ثانويين لكم.
استعدادنا للتظلم أمامكم أجاز لكم الادعاء والتفاخر أمام العالم أنكم تلاحقون الشكاوى وتحاسبون أفراد جيشكم بنزاهة وشفافية وجدية، أما استعدادنا ومحاولاتنا للتعاون معكم من أجل كشف الحقائق وملاحقة الجنود مرتكبي الجرائم، أعطتكم الفرصة والذرائع كي تقنعوا المحافل السياسية والقانونية في العالم أنكم تقومون بواجباتكم كدولة محتلة تراعي المواثيق الدولية ذات العلاقة والشأن، وبذلك نكون عمليًا قد ساعدنا على تحصينكم في وجه العدالة الإنسانية الدولية.
نقولها بملء الصوت: "كفى! فأنتم شركاء فيما يجري في الأراضي المحتلة ومتسترون على ما يحدث من جرائم ، لقد كنتم مسوّفين حرفيين ومتهربين مهنيين، إنكم لستم أكثر من مراوغين.
أنصح بقراءة تقرير منظمة "بتسيلم" لأنه يثير جملة من القضايا الهامة ويعطي للمهتمين فرصة للوقوف على تفاصيل عمل منظمة إسرائيلية عكفت على تقديم شكاواها ضد جنود اشتبهوا بارتكاب مخالفات جنائية بما فيه قتل الفلسطينيين، ويتيح للمعنيين فهم ما جاء في التقرير واضحًا أو ما خبّأته السطور، لكنني وقد استذكرته في هذه المقالة لأؤكد خلاصته الذهبية فبتسيلم توصلت، وإن كان بعد ربع قرن من عملها في هذا الميدان، أنهم بتعاطيهم وتعاونهم في تلك القضايا مع مؤسسات جيش الاحتلال القضائية وغيرها وفروا عمليا لهذا الجيش فرصة الاستفادة من هذا التعاون والتعاطي، فتلك الجهات لم تكن إلا أوراق تين تتستر على عورات الجنود وما يرتكبونه من جرائم. أما الأهم فكان وعي بتسيلم أنهم كانوا عمليًا ورقة التوت ألتي غطت على أوراق تين الاحتلال ولذلك قرروا التوقف والابتعاد.
فإذا كانت مؤسسة المدعي العسكري العام والمستشار القانوني للحكومة أوراق تين، فما بالكم في المحاكم العسكرية لهذا الاحتلال وهي الطواحين التي تحت رحاها تمحق سنوات عمر فلسطين والفلسطينيين وتداس زهراتها في كل صبح ومساء؟ أمن غفاة يصحون؟
وأنا أكتب مقالتي أصدرت المحكمة العسكرية في عوفر قرارًا يقضي بحبس المواطن الفلسطيني ابن قرية الخضر، من محافظة بيت لحم، بالسجن الفعلي لمدة عام كامل وبدفع ألفي شاقل كغرامة بعد إدانته بتهمة التحريض لأنه حيّا ونشر في خمس تغريدات/ بوستات على صفحته صورًا وفيديوهات لشهداء فلسطينيين أو لمن قاموا بعمليات طعن وما شابه. والعبرة لمن يعتبر.
إعلان بتسيلم قد يكون مهمازًا لمؤسسات شعب لم تتدارس منذ ستين عامًا جدوى تعاطيها مع محاكم الاحتلال وشروط هذا التعاطي الوطنية، ففي هذه المحاكم العسكرية تتدحرج أكثر من خمسين لائحة اتهام كلها تعتمد على ما نشره أصحابها على صفحاتهم الخاصة و تنتظر قضاء الاحتلال وقدره، وهذا كما نعرف، قبل بتسيلم وبعدها، لن يرحم جيلًا هجر الساحات وجافى جدران المخيمات والمدن والتجأ إلى "حيطان" الفيسبوك وإلى صداقة شبكاتها العنكبوتية، فالاحتلال بقي هو الاحتلال حتى بعد أن تحوّل الشعار إلى "تغريدة" وصار الحجر"لايكًا" فستبقى تلك صاعات سيرد عليها جيش الاحتلال بصاعاته: برصاصه وقانونه وقضاته. فإلى متى؟
[email protected]
أضف تعليق