الشرطة الإسرائيليّة هي جزء من نظام الحكم وهي إحدى الأذرع التي تحرس النظام وتحافظ على استمراريته. الشرطة الإسرائيليّة هي انعكاس للمجتمع الإسرائيليّ، شأنها شأن سائر المؤسسات الإسرائيليّة الأخرى وأفراد الشرطة هم أبناء المجتمع الإسرائيلي، فإن كانت غالبية المجتمع يمينيّة فاشيّة فكذا هي تركيبة الشرطة الإسرائيليّة. الشرطة ترى الفلسطيني في إسرائيل كما يراه المجتمع الإسرائيلي، ومكانته في نظرها هي نفس المكانة التي حدّدها الفكر الصهيونيّ. الفلسطيني هو خارج السياق. عندما أعلنت الصهيونيّة لنفسها أن البلاد فارغة، لم تقصد فعلًا أنها لم ترَ البشر القاطنين فيها وإنما لم ترَهم ذوي قيمة ولم ترَ أنّهم شعب ولم تعترف بعلاقتهم مع الأرض، فلذلك يمكن كنسهم وإخفاؤهم، ويمكن إهانتهم ويمكن استعبادهم. ذلك الفكر كان إذًا تمهيدًا لتفريغ البلاد من أهلها دون لسعة في الضمير. هذا الفكر ما زال مستمرًّا حتى اليوم تجاه الفلسطيني الذي ما زال قاطنًا في بلده، فهو ليس ذا قيمة في نظر المستعمر، فتُمكن إهانته وضربه وتهجيره واستعباده.
الشرطة الإسرائيليّة هي شرطة المستعمِر وإن جنّدت في صفوفها عناصر مرتزقة من الأصلانيين، حتى لو رفّعت أحدهم إلى رتبة قيادية عليا. لأنه هو أيضًا ممثل للنظام الاستعماري. وما يقرِّر في التعامل مع الفلسطينيي هو الفكر العنصري المتأصل في طبيعة النظام على كل مستوياته، وليست إثنيّة أو ديانة الشرطي هذا أو ذاك، وليست نواياه الحسنة أو طيبة قلبه. السياسات تُشتقّ من الفكر المؤسس للدولة، ولا يمكن تغيير السياسات بدون تغيير الفكر.
نعم، إنّ حالة العنف المتفشية في المجتمع الفلسطيني في الداخل هي حالة مقلقة ويجب علينا كفلسطينيين تحمّل المسؤوليّة تجاه ما يحصل في مجتمعنا. على الخبراء منّا أن يجتهدوا في تشخيص هذه الحالة المرضيّة ومسبباتها. ولا بدّ أن يبدأ هذا التشخيص من بداية تاريخ العلاقة بين المجتمع الفلسطيني ونظام الحكم الجديد في البلاد. بدأت العلاقة غير شرعية في بداية النكبة. جلّ ما يحدث في مجتمعنا هو من إسقاطات النكبة.
الهويّة الجمعية والفردية أسست هي أيضًا مع إقامة الدولة واغتصاب الأرض من أصحابها وتهجير غالبية شعبنا وفرض الحكم العسكري ومنع الحريّات واتباع سياسة العنصرية والترهيب. هذا النظام المستعلي لا يرى أننا أهل لحياة طبيعيّة وهادئة ومتنورة ومتطورة. ويؤمن أننا لا نقدر ولا نستحق أن نكون على نفس الدرجة مع "المجموعة اليهودية المتحضّرة"، مثلُا. هو مقتنع أنّ هذه المكانات والمستويات هي من سنّة الحياة.
كهذه هي عقلية الاستعمار في كل مكان وفي كل زمان. وعليه، فإن سياسته يجب أن تتطابق مع عقليته. لن تهتزّ الحكومة كثيرًا أمام إحصائيّات التدنّي الاجتماعي والاقتصادي لدينا، ولن تتحرك الشرطة لوقف حالات العنف. بل إنها سوف تساهم – عن وعي وعن لا وعي - في ترجمة وتطبيق نظرية السيّد والعبد، والمتحضّر والمتخلّف، وترسيخ الفجوة بينهما. فالفجوة يجب أن تبقى، وإن تلاشت فإن خطأً ما في النظرية، ولن يسمح النظام أن تكون نظريته خاطئة لأنه قائم عليها من الأساس، ولن يسمح بهدم أساساته.
المجتمع الفلسطيني بمجمله لا يثق بالسلطات الإسرائيليّة ومن ضمنها الشرطة. وفي الغالب يؤمن أن الشرطة تتعمد زرع الفتنة والعنف الداخلي الفلسطيني، أو على الأقل لن تأسف على وجوده، ويفسر موقف الشرطة هذا بأن من الأفضل بالنسبة إليها أن ينشغل العرب ببعضهم وألا يتفرغوا لنضالات جماعية ووطنيّة ضد سياسات الدولة، وليمارسوا أسلوب الحياة العنيف كما يليق بحضارتهم، وبهذا يبقون داخل خانة التخلّف. فهي إذًا حلقة مغلقة، فيها مقاطع تراتبيّة تكتمل في مشهد واحد، معناه أن النظام في إسرائيل، ولأنه عنصري، غير معنيّ وغير قادر على توفير طاقاته لمصلحة المجتمع الفلسطيني. فالشرطة الإسرائيليّة، عبر الفكر المحرّك إياها وعبر ممارسة أفرادها تجاهنا، هي أمّ العنف وهي جزء من المشكلة ولا يمكنها أن تكون جزءًا من الحلّ.
وفي هذا الوضع المأزوم، نواجه مفارقات هي جزء من طبيعة الحالة السياسية التي نعيشها. فيمكننا أن نطلب مساعدة الشرطة الإسرائيليّة لأنها هي فعلًا السلطة المسؤولة عن أمن المواطنين ونناشدها أن تنقذنا من الحالة المأساوية التي نحن فيها، ولكننا في الوقت نفسه نخشاها ونمقتها ونشكّ في نواياها ونرفض الانضمام إلى صفوفها لأن في ذلك تعاملا وخدمة لسلطة الأبرتهايد القامعة لشعبنا. في هذه الظروف نحن لسنا في دوامة عنف فقط، بل أيضًا في دوامة أيدولوجيّة. لذلك فإن أي مبادرة لبلورة خطط للحدّ من العنف في مجتمعنا الفلسطيني عليها أن تطرح بالإضافة إلى الخطوات التكتيكيّة والموضعيّة – والتي ربما تنقذ أرواحًا على المدى القريب- خطوات علاجية جذريّة وطويلة الأمد تأخذ في عين الاعتبار المعضلة الهوياتيّة في "مواطنتنا" عند نظام استعماريّ مبنيّ على فكر عنصريّ. مما يعني أن يأخذ المجتمع الفلسطيني نفسه الجزء الأكبر من المسؤولية على الحلّ انطلاقًا من إدراكه أن المجتمع السليم هو مصلحة وطنيّة محضة، وأننا معنيّون أن يكون كذلك، أما الدولة وشرطتها فلا.
الشرطة التي ترانا تهديدًا وعبئًا ودونيّين، يسهل عليها أن تنهال بالضرب على ميسم أبو القيعان في تل أبيب وتغتال خير حمدان في كفر كنّا وتجهز على شبّان وشابّات في القدس لمجرد اشتباه، وأن تقمع الاحتجاجات الفلسطينيّة بوحشيّة، وأن تعتقل الناشطين والناشطات بسبب كلمات على شبكة الفيس بوك. الشرطة التي تعمل بعقلية مخابراتيّة لا بعقليّة المحافظة على القانون، وتقف متأهبة من أجل حماية اليهودي لا حماية المواطن، يستحيل أن تكون عنوان طمأنينة وأمان لمجتمعنا.
[email protected]
أضف تعليق