سيكون تعيين ليبرمان وزيرًا للأمن في دولة إسرائيل وضمّ حزبه إلى الإئتلاف الحاكم في الدولة اليهودية ضربة سياسية ذكية، ذات رسائل وأرباح "نتنياهيّة"عديدة محليًّا وإقليميّا ودوليًّا. هذه الخطوة، إن كانت مدروسة – وهي تبدو كذلك- فهي تنمّ عن دهاء سياسي خارق، لكنه مشوب بخصال السفالة والكيد والشماتة.
فلسطينيّو الداخل
إن العبرة السياسيّة الهامّة بالنسبة إلينا – نحن الفلسطينيين جرّاء هذا الحراك السياسيّ – الحزبيّ فلها علاقة بالإمكانية التي أتيحت نظريًّا لبضع ساعات لرئيس القائمة المشتركة أن يتزعم المعارضة في الكنيست، لأنه في حالة انضمام هرتسوغ والمعسكر الصهيوني إلى الحكومة فستكون القائمة المشتركة أكبر حزب معارض للحكومة في البرلمان، مما يمنح رئيس الحزب، أيمن عودة في هذه الحالة، منصب زعيم المعارضة.
لو حصل هذا- لكان نقطة مفصليّة في تاريخ السياسة الفلسطينية في الداخل، وفي تاريخ السياسة الإسرائيليّة، ولكانت سابقة معقدة تطرح تحدّيات أمام الإسرائيليين وكذلك – وهو ما يهمني أكثر في هذه المداخلة- أمامنا نحن الفلسطينيين. كان من البديهي أن يحاول رؤساء أحزاب صهيونية تغيير قوانين اللعبة الديمقراطية الإسرائيلية والالتفاف على القانون وعلى العرف السياسي لينصّبوا يئير لبيد زعيمًا للمعارضة بدلًا عن رئيس الحزب الأكبر المعارض، لأنّه اليوم عربيّ، مما يثبت مرة أخرى ما ليس بحاجة إلى إثبات، عنصرية إسرائيل التي لا تطيق وجود عربيّ حتى في منصب زعيم المعارضة. تلك الساعات عجّت بالأخبار والإشاعات والتصريحات والتحليلات، قبل صدور إعلان رسميّ عن انضمام هرتسوغ إلى الحكومة وعن احتمال بقاء معارضة برلمانية برئاسة عربية.
كان النقاش إزاء هذه السابقة، لو حصلت، يدور حول تعامل الإسرائيليين معها وموقفهم تجاهها وحرجهم منها، ولم يطرح التساؤل بشكل كافٍ إن كان لدينا نحن حرج من هذا المنصب. وما هي تبعات وإسقاطات هذه الخطوة على مكانتنا ودورنا وهويتنا نحن كفلسطينيين. كيف يمكن أن يكون فلسطينيّ رئيسًا للمعارضة الإسرائيليّة؟ كيف ستدور اجتماعاته الشهرية، طبقًا لقانون زعيم المعارضة، مع رئيس حكومة دولة اليهود الملزم بإعطائه تقريرًا شهريًّا عن برامج الحكومة؟ كيف يمكنه أن يلتزم بحفط أسرار الدولة؟ كيف يمكنه أن يصغي إلى الخطط العسكرية التي تقرّها الحكومة ضد غزّة أو لبنان أو سوريا مثلا ويبقى صامتًا، تطبيقًا لتعهد حفظ أسرار الدولة؟ كيف سيوافق على حراسة الشاباك له كما ينصّ القانون؟ نفس الشاباك الذي يطارد ويغتال أبناء شعبه؟ هل نحن فعلًا جزء من هذه التركيبة – كما هي؟
لا شك أن هذه وضعيّة جديدة لا ندرك كيف سنتصرف من خلالها. ولا الطرف الإسرائيلي يعرف كيف سيتصرف. وتجدر الإشارة أن أصوات البلبلة والضغط صدرت من الكثير من الإسرائيلين، سياسيين كانوا أم إعلاميين ومحللين. ولا أستبعد مطلقًا أن تكون قضية "العربي الذي سيرأس المعارضة" محفزًا لانضمام ليبرمان بهذه السرعة إلى الحكومة لإخراج الدولة اليهودية من مأزق عنصريّ جديد ولتفادي أزمة "أخلاقية" تعكس زيف الديمقراطية الإسرائيليّة المدّعاة. لكنّ الأمر الأهم من ذلك هو موقفنا نحن. والآن بعد أن تبيّن أن زعامة المعارضة عادت إلى المعسكر الصهيوني وإلى وضعها الطبيعيّ، فيمكن استغلال الفرصة لبلورة موقف وطنيّ مبنيّ على نقاش ودراسة. لذلك تقع على القيادة مسؤوليّة دراسة الموضوع أولًا وفتح نقاش جماهيريّ حوله. إذ ليس بالضرورة أن نذهب بشكل فوريّ إلى كل منصب مهما بدا مغريًا وذا أهمية. فكما رفضت أحزابنا مثلًا بشكل متواصل منصب رئاسة لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست لما فيه من مفارقات ومهمات والتزامات "أمنيّة"لا يمكننا كفلسطينيين التعايش معها، عليها أيضًا اتخاذ موقف وطنيّ واضح إزاء المنصب الرسميّ لرئاسة المعارضة الإسرائيليّة، وبالمقابل أخذ دور المعارضة الفعلية للسياسة الإسرائيليّة ككلّ. لأن دورنا لا يقتصر على معارضة الحكومة فحسب وإنما أيضًا معارضة جذور الفكر العنصري القائمة عليه هذه الدولة. وهذا تعريف جديد لمعنى المعارضة من حقّنا أن نعمل بناءً عليه. لنا الحق أن نعرّف نضالنا وعلاقتنا بالدولة استنادّا على كوننا أهل البلاد الأصليين وكونها هي دولة استعمار. وأننا نأخذ من قوانين اللعبة ما نراه مناسبًا لمكانتنا وهويتنا ورؤيتنا لمستقبل هذه البلاد، ونترك ما لا نراه مناسبًا لنا حتى لو ظهر كأنه لعب مع الكبار، لأن هويتنا وفلسطينتنا أكبر.
هرتسوغ
بخطوته هذه أثبت نتنياهو مرة أخرى أن هرتسوغ ليس أهلا لرئاسة حكومة وعديم الخبرة في إدارة مفاوضات ويمكن اللعب به بسهولة، فعندما غرّر به خلال الأيام الأخيرة وأنهكه، ومنحه الانطباع أن تشكيل حكومة معه أصبح قاب قوسين أو أدنى قام التلميذ غير المتمرس هرتسوغ وكشف النقاب عن أنه فعلًا يجرى مفاوضات مع نتنياهو وانه قطع شوطًا لا بأس به في سبيل الانضمام إلى الحكومة، مما أدى إلى هزة سياسية داخل حزبه ونقاش شرس بين مؤيّد ومعارض وبين مغدور وعارف بخبايا الأمور. فجاء الداهية نتنياهو وأنزل عليه – في خضمّ البلبلة داخل حزب العمل- ضربة قاضية عندما تفاوض واتّفق مع ليبرمان على انضمام الأخير للحكومة بدلًا عن هرتسوغ. وبذلك يسحق نتنياهو حزب العمل، الخصم السياسي الأكبر والتقليدي لليكود. وقد بدأت فعلًا تعلو الأصوات فيه لإقالة هرتسوغ وظهرت الخلافات الحادة بين الأطراف من على موجات الأثير، ومن الصعب التنبّؤ كيف سيصحو حزب العمل من هذه الضربة.
ليبرمان
وبالنسبة إلى ليبرمان نفسه وقبوله لمنصب وزير الأمن فإنه يضع نفسه في مصيدة سياسية معقدة، خاصة على خلفية تصريحاته الناريّة في الشؤون الحربية والسياسة العسكرية المطلوب انتهاجها ضدّ الأعداء، وعلى رأسهم الفلسطينيون. وله تصريحات فاشية ضد الفلسطينيين مواطني إسرائيل ومواقف همجيّة ضد الشبان والشابات الفلسطينيين المتمردين على الاحتلال وعائلاتهم وينادي بإقرار عقوبة الإعدام ضد منفذي عمليّات ضد إسرائيليين ويدفع إلى تدمير حركة حماس وإسقاط حكمها في غزة وغير ذلك من المواقف. كل هذه كانت تصريحات من مقعد المعارضة لمناكفة نتنياهو وحلفائه، أما الآن وعندما سيصبح صاحب القرار في وزارة الأمن فقد وضع نفسه في امتحان صعب لإنه سيكون مطالـَبًا بتنفيذ تلك المواقف. إن لم يفعل فسيظهر مخادعًا ومجرد صاحب أقوال لا أفعال وهذا سوف يأتي عليه وعلى حزبه بالضرر السياسي في جولة الانتخابات المقبلة، وإن حاول أن يفعل فسوف يخوض مغامرة مجهولة النتائج، والأرجح أنه سيفشل فيها، لأن هذه المطالب عصيّة على التنفيذ على أرض الواقع، وربما تشعل الجبهة الفلسطينية أكثر وتشكل خطرًا أكبر على الإسرائيليين. يمكنه القيام بجرائم موضعية وانتقامية تجاه المقاومة الفلسطينية ولكن من المستبعد أن يجرؤ على المبادرة بعمل عسكري استراتيجيّ واسع النطاق، وبالنهاية فلن يتفوّق بدمويّته على سابقيه في هذه الوزارة، ولن يعلو على يعلون المُستقال. لذلك فلن يتغير الوضع الأمني بشكل جذريّ خلال ورديّته، وإن غامرَ فكثيرًا ما فشل القادة الإسرائيليون المغامرون أمام الفلسطينيين. وعليه، فإن ليبرمان الذي يستلم دفّة القيادة مع كل هذا الوعد والوعيد سيخرج على الأرجح من هذا المنصب إما كاذبًا وإما عاجزًا وإما أجوف وإما مهزومًا، وسوف يدمّر صورته الأمنية "النظرية" التي بناها خلال سنوات. ونتنياهو سينتظره في نهاية الطريق ويصافحه مع ابتسامة الخبيث الرابح سياسيًّا مرة أخرى من هذه الخطوة.
السيسي
أما الرسالة القاسية والمهينة حقًّا فهي تلك الموجّهة إلى مصر وإلى عبد الفتاح السيسي. فقد عبّر الرئيس المصري بالرجاء والتمنّي عن رغبته في أن تتفق الأحزاب الإسرائيلية، وقصد الحزبين الكبيرين، على تشكيل حكومة من أجل تحريك "عملية السلام" وأن مصر مستعدة لأخذ دور مركزيّ في هذا الشأن. يبدو أن هذا التصريح كان منسقًا مع تصريح هرتسوغ الذي قال قبله بساعات أن هناك فرصة نادرة للعودة إلى مسار المفاوضات مع الفلسطينيين. وتحرّك وزراء خارجية دول أجنبية وأثنوا على تصريحات السيسي وبدأ المحللون السياسيون بالتخمين والتطبيل والتزمير بأن في الأفق مبادرة سياسية تُحاك مع أطراف دوليّة ستكون مصر محركها. وقد ذهب بعض المحللين الإسرائيليين بعيدًا حينما استنتجوا أن السيسي سيزور الكنيست الإسرائيلي وسوف يحذو حذو الرئيس المصري الأسبق أنور السادات. ومرة أخرى، في خضمّ هذه الأخبار والتحليلات، لعب نتنياهو لعبته وأبرز ورقته ليبرمان قائلا هذا ردّي على مبادراتكم. وأي ردّ هذا على رئيس مصر. ليس فقط لأن نتنياهو أظهر السيسي واهمًا وجاهلًا وهزيلًا عندما أوهم العالم بتصريحه المستجدي بأن هرتسوغ في طريقه إلى وزارة الخارجية وأنّ شيئًا ما سيطبخ في المنطقة، بل لأن الردّ جاء بالذات بشخص ليبرمان، هذا الليبرمان الذي هدد قبل عدة سنوات بقصف سدّ أسوان، لمجرد أن سياسة مصر تجاه إسرائيل لم تعجبه، وكان ذلك أيام الرئيس مبارك. هذا السلوك النتنياهي يحمل تهديدًا وإهانة بحق مصر، ويؤكّد على موقفه المعروف الرافض لأي مبادرة من أي طرف لجرّ إسرائيل إلى طاولة مفاوضات، ولكن إن حصل ذلك، وهو مستبعد، فليحصل مع ليبرمان صاحب المسدس المشهر والمواقف المهينة للأطراف المشاركة في المبادرة. وفي هذه الجولة يظهر السيسي أيضًا كتلميذ صغير فاشل في السياسة الإقليمية والدوليّة.
[email protected]
أضف تعليق