يستذكر الشعب الفلسطيني كل عام في مثل هذا اليوم ما يطلقون عليه "ذكرى النكبة". فتخرج المسيرات والفعاليات المختلفة ويعيدون فيها التأكيد على حقوقهم المسلوبة، وآمالهم الحيّة، ليثبتوا مرة أخرى أن هذا الحق يأبى النسيان، وأن ما راهن عليه بن غوريون بأن الكبار يموتون والصغار ينسون لم يكن إلا فرضية ساذجة ينكرها الواقع السالف على مرة السنين.
في مثل هذا اليوم قبل ثمانية وستين عاماً، وقف بن غوريون بكل صلف ووقاحة وتكبر ليعلن للعالم الصامت قيام دولة إسرائيل، فوق أراضٍ فلسطينية اغتصبها من أصحابها بقوة السلاح وإثارة الرعب والذعر في نفوس الآمنين. لتستمر دولته من بعده على نفس الوتيرة من الإرهاب والتجبر، فحافظت على كيانها فوق الأشلاء والدماء، وفوق كل المبادئ والقيم والأخلاق.
وعلى الرغم من ما يشكله هذا التاريخ بالذات من خصوصية وأهمية إلا أن النكبة الفلسطينية لم يكن لها تاريخ محدد ولم تحدث على حين غفلة من الفلسطينيين والعرب. ولم يكن هذا التاريخ هو الذي خرج فيه جميع الفلسطينيين من مدنهم وقراهم إلى مخيمات اللجوء المختلفة، بل كانت سلسلة من الجرائم والهجمات والمجازر بدأت باحتلال قيسارية في 15 شباط 1948 وانتهت بضمّ أم الرشراش –التي يطلقون عليها اسم "ايلات"- في نهاية آذار 1949.
هذا التسلسل التاريخي يمدنا بدروس تاريخية ثمينة. الدرس الأول أن الإعداد والتحضير الفكري والثقافي هو من أسس التقدم والنصر. ففي تلك الحقبة تواجه الإعداد الفكري والثقافي مع المحدودية العربية في التفكير والإعداد فكان الفارق الكبير في التخطيط والتنظيم بين الطرفين. ففي حين بدأ اليهود استعداداتهم منذ نهاية القرن السابق وتحديدا في مؤتمر بازل عام 1897، ووضعوا استراتيجيات واضحة وخطط مدروسة وباتوا صناع قرار في أعظم دول العالم في ذلك الوقت، كان العرب بعيدين عن الواقع وعما يدور من أحداث وقضايا في العالم، واكتفوا فيها بالأدوار الهامشية.
درس آخر يذكرنا به عام النكبة هو الواقعية والاعتراف بالأخطاء والثغرات كخطوة أولى للحل، هذه الميزة التي لم تكن موجودة لدى الطرف العربيّ الفلسطينيّ و أدت إلى إنكار الهزيمة والنكبة حتى كان الأوان قد فات. فعند إعلان دولة الاحتلال كانت مدن رئيسية كبرى لا تزال بعيدة عن السيطرة الصهيونية كالناصرة وبئر السبع كما لم تكن العصابات قد سيطرت على قرى حزام القدس بعد، فلو تم تقييم المشكلة من البداية لربما واجهنا واقعاً مغايراً للكارثة التي حصلت.
محدودية النظر كانت عنواناً آخر من العناوين المسببة للنكبة. ففي حين كانت القيادة الصهيونية تتحلى بالصبر وبعد النظر كانت القيادة العربية تخوض حرباً عشوائية يقتصر فيها التفكير بكل معركة على حدة. ولم يكن هنالك استراتيجية لحماية الانتصارات واستثمارها فذهبت جل التضحيات والبطولات هباءً منثوراً.
الدرس الأهمّ في هذه القراءة هو الوحدة والتكاتف، فالعصابات الصهيونية نجحت عام 1948 بالاستفراد بكل قرية لوحدها وقامت بالمجازر والجرائم بينما كانت القرى المجاورة تنتظر مصيرها بصمت وترقب. هذا الأمر الذي نواجهه حالياً حين استطاعت دولة الاحتلال الاستفراد بكل شق من شقي الوطن (الضفة وغزة) على انفراد، فتارة تجد القصف والتدمير والأشلاء في غزة لوحدها وتارة أخرى القتل والاستهداف في الضفة، في ظل ابتعاد مضطرد للقيادات الفلسطينية عن الوحدة والمصالحة، وفي ظل ما يعيشه المحيط العربي من انقسامات وتشرذمات باسم الدين والمذهب والطائفة والعرق، ففقدت القضية الفلسطينية صدارتها للاهتمام العربيّ.
لقد كان عام 1948 عام النكبة الفلسطينية الكبرى، لكن الواقع يشير إلى أن النكبات لم تتوقف فانتكبنا عاماً بعد عام. ولعل نكبة عام 2007 التي فصلت الشعب إلى شعبين كانت الأخطر والأعمق ولم نستطع حتى الآن أن نتجاوزها لأننا لم نقم بعد بفهم نكبة 1948.
[email protected]
أضف تعليق