ذكرى ما يدعون أنه «استقلالهم»، ونكبتنا هذا العام، تتخذ طابعاً أكثر جدية من العام الذي سبق، بما أنها تعكس لدى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي حالة من تبدل المشاعر إزاء آفاق الصراع، تجتاح إسرائيل حالة من الغرور والعنجهية، وربما الاعتقاد بأن التاريخ، بما يشهد من وقائع، سيمكنها من القفز خطوة كبيرة نحو تحقيق أهدافها التوسعية على الجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية.

بعد اثنين وعشرين عاماً على اتفاقية أوسلو، التي يفترض أنها فتحت المجال، لكي يحقق الإسرائيليون أطماعهم، ويحقق الفلسطينيون بعضاً من حقوقهم على أرض فلسطين التاريخية، تغلق إسرائيل هذا المسار، وتعود السياسة الإسرائيلية إلى أحلامها التي تتجاوز الحدود التي وضعتها القوى الاستعمارية، نحو تحقيق هدف إسرائيل الكبرى.

لم يعد ثمة فرصة لتحقيق رؤية الدولتين على أساس قرارات الأمم المتحدة، ناهيك عن الرفض الإسرائيلي المطلق لحق الفلسطينيين في العودة وبات الصراع مفتوحا على خيارات غامضة.

إسرائيل ترفض رؤية الدولتين، وترفض، أيضاً، دولة لشعبين، ما يعني أن الصراع عاد من جديد إلى أصوله الأولى، صراعاً وجودياً، محكوما للونين الأبيض أو الأسود، أقول إن التعاطي مع هذه الذكرى في هذا العام يبدو أكثر جدية، ويتجه نحو جدية أعمق خلال الأعوام المقبلة كلما تقدمت إسرائيل أكثر في تحقيق مخططاتها التوسعية.

التاريخ يصحح مسيرته، ذلك أن اتفاقية أوسلو، حتى لو قُيِّض لها النجاح في تحقيق دولة للفلسطينيين على أراضي الضفة والقطاع فإن ذلك لن يقدم حلاً عادلاً ولو بالمعنى النسبي للفلسطينيين وان الصراع سيظل قائماً، ولكن بأشكال جديدة.

معنى ذلك أن الصراع يعود إلى طبيعته، إذ لا يمكن تحقيق التعايش بين أهداف متناقضة جداً، لأنه لا يمكن أن يتحمل الشعب الفلسطيني وحده المسؤولية الكاملة عن حل المسألة اليهودية.

أرادت القوى الاستعمارية أن تتخلص من مشكلة الغيتوات اليهودية التي تمنّعت على عملية الاندماح في مجتمعاتها، وتسببت في خلق الكثير من المشاكل للرأسمالية الناهضة، وأرادت تحويل الأزمة اليهودية إلى أداة لتحقيق أطماعها ومصالحها الاستعمارية في هذه المنطقة الغنية والحسّاسة.

الفكرة من أساسها استعمارية خبيثة، تراهن على زراعة عضو غريب عن شعوب المنطقة، يضمن منع العرب من تحقيق وحدتهم وتطلعاتهم القومية.

الدول الاستعمارية أرادت أن تظل المنطقة العربية ممزقة، ضعيفة، لكي تستبيح ثرواتها ولذلك فإنها لم تكتف بالتمزيق الذي وقع من خلال اتفاقية سايكس بيكو العام 1916، وإنما تسعى منذ سنوات لإحداث المزيد من التمزق.

المشكلة بالنسبة للدول الاستعمارية مركبة ذلك أن إسرائيل لم تنجح ولا هي قابلة لتحقيق النجاح في تطبيع علاقاتها مع محيطها العربي، ولذلك فإنها ظلت معزولة تماماً بالرغم من الفرصة التي أتاحتها اتفاقيتا كامب ديفيد مع مصر، ووادي عربة مع الأردن، أما المشكلة الكبرى الأخرى ان هذا المشروع الاستعماري لم ينجح في تشتيت وتغييب الشعب الفلسطيني، الذي يتجاوز تعداده الأحد عشر مليوناً، واستطاع أن يفرض نفسه على الخارطة السياسية، وتحتاج قضيته إلى حل معقول.

نجم عن حل المسألة اليهودية مسألة فلسطينية لا تقل خطورة في حال استمرارها عن المسألة اليهودية قبل «حلها»، ما سيبقي المصالح الاستعمارية تحت التهديد.

لم يكن ذلك هو ما أرادته الدول الاستعمارية، التي عكست رؤيتها لحل المسألة اليهودية، من خلال قرار الأمم المتحدة، رقم 181، المعروف بقرار التقسيم، وبناء عليه حصلت إسرائيل على شرعية الأمم المتحدة، فيما بقي الشق الآخر المتعلق بالدولة العربية معلقاً حتى الآن.

الوضع القائم، والذي يشهد على رغبة إسرائيل في تجاوز قرار التقسيم وكل قرارات الأمم المتحدة وحتى رؤية صانعيها وداعميها، يحمل الدول الغربية مسؤولية أخلاقية، ولكنه، أيضاً، ينطوي على تهديد لمصالحها ومخططاتها في المنطقة.

ما يزيد الطين بلة بالنسبة للدول الاستعمارية هو أن إسرائيل تتجه نحو أن تكون دولة عنصرية غير ديمقراطية، ما يجعلها عبئاً على الدول التي صنعتها، والدول التي تتكفّل بحمايتها.

لهذا فإن مرور عام آخر على هذه الذكرى، يدفع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أكثر فأكثر نحو التعامل مع رؤيتيهما المتناقضتين بآليات ووسائل تنتمي إلى مربع الصراع الوجودي، ما سيرغم أطرافا كثيرة على تغيير طبيعة تعاملها مع مصالحها في اتجاه لا يخدم إسرائيل ومشاريعها التوسعية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]