رُغم أنّي كنت مُنكبًّا في غرفتي على قراءة كتاب "حيفا التّاريخ والذّاكرة"، والّذي يحكي قصّة هذه المدينة الّتي كانت حتّى عام 1948 مركزًا ثقافيًّا مدينيًّا حيويًّا وقلبًا نابضًا للمجتمع الفِلَسطينيّ في شِمال فِلَسطين التّاريخيّة.. حيفا الّتي كانت منذ بداياتها تعجّ بالحياة وبالنّشاطات الثّقافيّة والتّربويّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، جاءَتها أحداث النّكبة لتقطع مسيرتها وزهوّها وترمي غالبيّة أهلها الأصلانيّين وراء البحار وخلفَ الحدود؛ آذى سمعي وأغاظني وجبَّ حبل أفكاري صفير المركبات والبواخر وجلَبة الموسيقى الصّاخبة، كما صُمَّت أذُنايَ من ضجيج المفرقعات احتفالًا بيوم استقلالهم وتذكيرًا بسنوات نكبتنا.. فأُكرهت على قطع سير قراءتي، برهة من الزّمن، لأعود بعدها وأجلس قبالة شاشة الحاسوب لأنضّد مقالتي هذه على لوحة المفاتيح.
وكنت قد اضطُررتُ، قبل بدء "الاحتفالات" باستقلال دولتهم، إلى الجلوس دقائق قليلة متقطّعة، أمام شاشة التّلفزيون الإسرائيليّ، مُرغمًا لا مُغرمًا، "لأدغدغ فضولي" برؤية كاهن التّجنيد جبرائيل ندّاف يوقد شعلة استقلال دولته، فوجدته يتبختر على المنصّة بزيّه الكهنوتيّ الأسودَ وصليبه الذّهبيّ اللّون المتدلّي من عنقه، فخورًا مُشرئبًا، ماضيًا نحو الشّعلة!
جبرائيل ندّاف، كاهن في كنيسة الرّوم الأرثوذكس، مؤسّس ورئيس إدارة منتدى تجنيد الطّائفة المسيحيّة، وقائد المجتمع المسيحيّ الآراميّ، اختيرَ لإيقاد الشّعلة خلال المراسم عشيّة يوم الاستقلال ضمن فئة "بطولة شعبيّة"(!).
تمّ اختيار ندّاف لإيقاد الشّعلة، على خلفيّة "نشاطه" المتعدّد، منذ نحو أربع سنوات، من جرّاء محاولاته دمج المسيحيّين في الخدمة الوطنيّة وفي صفوف جيش الاحتلال، علاوةً على محاولة تبييضه صورة إسرائيل القاتمة في جميع المحافل المحلّيّة والدّوليّة، ودمج "المجتمع المسيحيّ" في حياة مشتركة داخل دولة إسرائيل – فأوقدَ الشّعلة فخورًا مُنفعلًا صارخًا بصوت جَهْوَرِيّ: لمجد دولة إسرائيل (לתפארת מדינת ישראל).
ويُذكر أنّ ندّافًا مُشتبه به بالحصول على رشاوى جنسيّة، وماليّة وأمور أخرى من شبّان طلبوا مساعدته خلال تجنيدهم للجيش الإسرائيليّ، ومن فلسطينيّين طلبوا الحصول على تصاريح دخول إلى إسرائيل أو تصاريح سفر إلى الخارج – وفق ما ظهر من تحقيق نُشر، مؤخّرًا، في قناة التّلفزة الإسرائيليّة الثّانية.
ومن المعلوم أنّ ندّافًا معروفٌ جدًا في إسرائيل، وهو مقرّب من مسؤولين في الحكومة الإسرائيليّة. وقد احتضنته الحكومة احتضانًا عميقًا وضمّته إلى صدرها(!)، فالتقى مرّات عدّة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وحظي بـ"احترام الدّولة" فاختير لإيقاد الشّعلة في مراسم يوم استقلال إسرائيل(!).
ووفقًا للتّقرير، فقد استغلّ ندّاف مكانته من خلال محاولة الحصول على رشاوى جنسيّة مقابل مساعدة الجنود المسيحيّين في أثناء إجراءات الالتحاق بجيش الاحتلال. وقد شهَد بعض الشّباب المسيحيّين عن مكالمات ذات طابع جنسيّ إيحائيّ، بل كشف بعضهم عن مراسلاته مع ندّاف في موقع التّواصل الاجتماعيّ "فيسبوك". كما شهدت جنديّة مسؤولة عن تجنيد المسيحيّين عن مراسلات نصيّة مُخجلة بين ندّاف وجنود شباب، وقالت إنّ كثيرين من الشّبان المسيحيّين الّذين أرادوا التّجنّد تخلّوا عن الفكرة، لأنّهم ارتاعوا من العلاقة مع ندّاف لإيحاءاته الجنسيّة.
وفي جزء آخر من التّحقيق كُشف أنّ ندّافًا طلب وحصل على رشوة مقابل تصاريح دخول رتّبها لفِلَسطينيّين طلبوا تصاريح دخول إلى إسرائيل أو السّفر إلى الخارج. كما تبيّن، لاحقًا، أنّ هنالك شبهات بتورّط ندّاف بقضايا ماليّة وتبييض أموال، إضافةً إلى الشبهات بفضائح جنسيّة!
فهل هذه الشّبهات كلّها تأتي، أيضًا، لتمجّد دولة إسرائيل؟!
وفي ردّه على التّحقيق، قال ندّاف: "تآمرت ضدّي جهات إجراميّة في المجتمع، إضافة إلى جهات ثارت من جرّاء غيرتها من نجاح "مشروع حياتي"، وذلك من أجل منعي من الحصول على الاعتراف بمساهمتي في تجنيد العرب المسيحيّين للجيش الإسرائيلي (جيش الاحتلال). نفّذت هذه الجهات جريمة مُحكمة ضدّي وضدّ المنتدى ونجحت في اختلاق ادّعاءات كاذبة ومُغرضة لتبدو حقيقية كما يفترض".
وأضاف: "حقيقة لم أقم بأيّ عمل ممّا جاء في التّقرير، لم أتعرّض جنسيًّا لأيّ شخص، لم أحاول المسّ بأحد، ولم أعمل على ترتيب تصاريح للفلسطينيّين لدخول إسرائيل. إلّا أنّ جهات مُعادية سيطرت على صفحاتي الـ"فيسبوك"، ورسائل هاتفي المحمول النّصيّة من أجل نشر الأكاذيب، والافتراء وتشويه سمعتي".
لماذا وَقتَ التّلفزيون الإسرائيليّ بثّ هذا التّقرير، أيّامًا معدودة قبل إيقاد ندّاف الشّعلة؟! ولِمَ لم يمنع جهاز الأمن العام ("شاباك") والأذرع الأمنيّة والمؤسّسات الحكوميّة الّتي "تحتضن ندّافًا وتقف إلى جانبه" نشر هذا التّقرير.. فجميعنا يعلم أنّ جهاز الأمن العام والاستخبارات الإسرائيليّة وأذرعها الأمنيّة تصنع المعجزات عند الحاجة(!). وعلى ما يبدو لم تعد لندّاف لديها أيّ حاجة!!
وأذكّر أنّ شرطة إسرائيل كانت قد حقّقت قبل نحو سنة مع ندّاف بشبهات أخلاقيّة وفضائح جنسيّة، وأكّدت في حينه بعض المصادر أنّ فضائح كثيرة ستُثار في أعقاب هذه الشّبهات الأخلاقيّة التي تمّ التّحقيق فيها مع ندّاف.. فهل ستفتح الشّرطة ملّف التّحقيق من جديد بعد أن أعرضت عن خدمات ندّاف؟!
أين هي بطريركيّة الرّوم الأرثوذكس من كلّ ما يحدث؟! وأين نحن من كلّ ما يحدث؟
صحيح أنّ مجتمعنا لا يخلو من نفوس مريضة متطفّلة نرجسيّة "متمسكنة"، لا تحبّ الخير لغيرها ولا حتّى لنفسها؛ وعلينا أن نعمل في مجتمعنا على تنقية نفوسنا وإصلاح عيوبنا واجتثاث مفاسدنا وطرح مشاكلنا ومحاولة معالجتها، فجُبن أن نطمر رؤوسنا في الرّمال كالنّعام، نوجّه أصابع الاتّهام - وبحقّ - إلى المؤسّسات والسّلطات الحكوميّة المختلفة الّتي تعمل على تفريقنا، وتمارس بمنهجيّة سياسة التّمييز والعنصريّة، ولكنّنا نمارس جريمة أكبر في حقّ أنفسنا.
نصرخ بكلّ حقّ وشرعيّة بوجه المحتلّ والظّلم وثقافة التّجهيل والخنوع والتّخلّف والإقصاء المُمنهَجة، ونصمت خانعين حقيرين أمام احتلالنا الفكريّ وتخلّفنا وسيطرة أبناء مجتمعنا علينا.. نمارس بحقّ أنفسنا سياسة الإرهاب والتّرهيب، سياسة نرفضها من الآخر ونقبلها من أبناء جِلدتنا.. نخاف ونجبُن أمام التّابوات، هذه المحظورات والأمور الّتي يُحرّم مسّها.. نبني الحواجز ونسطّر الحدود فيما بيننا، ونخضع ونخنع، بينما نطالب الآخر بكسرها وتفكيكها..!
كيف لنا أن نحرّك ساكنًا ونعمل على التّغيير - رغم بعض المحاولات البائسة هنا وهناك - ونحن مجتمع يجبُن أمام تجّار المخدّرات والأسلحة والأراضي، يعجز أمام المتطرّفين والتّكفيريّين، يرَعُ أمام الخوَنة والمتآمرين والمتعاونين، وينهزم أمام القتلة.. نخدع أنفسنا ونعلّق غالبيّة مشاكلنا على موبقات الاحتلال والمحتلّ والدّولة العنصريّة، وهذا يعمينا عن رؤية مشاكلنا والتّصدّي لها! نطالب بالتّغيير والتّحرير، ونحن ما زلنا مكبّلين بأصفاد حديديّة صَدِئة وأفكارٍ رجعيّة.
يجب أن نعمل على التّغيير، فالأوطان بالبشر تُذكر لا بالحجر وحده.. سنبقى في وطننا شرفاء أنقياء، وسنعمل على تحرّرنا الدّاخليّ والمجتمعيّ أوّلًا من كلّ القيود، وسنكسّر الأصفاد؛ وحينها، فقط، يمكننا أن نصرخ بأعلى صوتنا ونمجّد شعبنا الفِلَسطينيّ!
[email protected]
أضف تعليق