أمّا بعد،
فالمقام لا يحتمل التّعابيرالخطابيّة البليغة التي لا طائل من ورائها، ولا التأنّق بعبارات النعي والرّثاء التي يشعر بها كلّ منّا تجاه هذا البلد العزيز والذي بتنا ندرك أنّه يفلت من بين أيدينا يومًا بعد يوم. والمقام لا يحتمل أيضًا تحميل المسؤوليّة الكاملة على البلدية ومطالبتها بالاستقالة، لأنّ الاستقالة بمثل هذه الظروف هي بمثابة تسريع لحالة التداعي نحو الفوضى ونحو مزيد من الانتحار.
علينا أن نبحث عن الأسباب البعيدة وراء العنف: قد تكون دوافع قاتل في ارتكاب جريمته دوافع شخصيّة، ولكن هنالك دائمًا من هيّأ له الفرصة والمناخ العام لارتكابها، وأهم ما يقف خلف أيّ ظاهرة عنف، برأيي، هو انعدام الأمن وانتفاء الثقة وإيثار المصلحة الخاصّة على العامّة لدى شريحة كبيرة من الناس. علينا أن نسأل لماذا حدث ذلك؟ لماذا يفقد المواطن الفحماوي ثقته بالمجتمع الذي يعيش فيه فيلجأ إلى تطبيق "العدل" على طريقته وحسب ذوقه الخاصّ؟ ما الذي يراه في هذه المدينة ويجعله يفتقد مثل هذه الثقة ويشجّعه على اتخاذ العنف وسيلة مجدية؟ ألأنّه يرى آخرين يمارسون العنف- وإن كانوا يفعلون ذلك خلسة أو بطريقة لبقة لا يشعر بها أحد؟ّ هل هنالك لوبي فحماوي مكوّن من المتنفّذين وذوي الامتيازات أشاعوا هذه الفوضى وأفشوا مشروعيّة العنف، ثمّ نقلوا العدوى إلى شرائح "أقل شأنًا" في المجتمع الفحماوي؟!
من يرغب بمعالجة العنف ينبغي عليه معالجته في كافّة تجلّياته ومظاهره: في المؤسّسة، في المدرسة، في البيت، في الشّارع، وفي المسجد. في أمّ الفحم، وفي السّنوات الأخيرة على وجه الخصوص، تفشّت ثقافة الإلغاء والتكفير. وللأسف، فإنّ الكثير من الوجوه الدينيّة في المدينة متورّطة في ترسيخ جوّ من الاستقواء والعربدة وتأديب الناس وفق قناعات أيديولوجية تخفي من ورائها مصالح ماديّة ضيّقة. مردودات هذه الثقافة لا يمكن إلّا أن تكون وبالًا على الوعي العام للنّاس، وتحديدًا، على الإنسان البسيط. ثمّ إنّ هذه الثقافة تستخدم الدّين مرجعيّة لتسويغ ممارسة العنف عند كلّ من أصابته العدوى والبلوى. ثقافة من هذا القبيل لا توّلّد إلّا الخوف في النّفوس، وحين يخاف الإنسان لا يجد بأسًا من الدفاع عن نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة، أمّا غياب الشرطة فله اليد الطولى في تربية هذا الشعور المَرَضي وفي تعزيزه.
كلّ ما قيل لا يعفي الأهل من المسؤوليّة، فكثير من المجرمين تشّربوا الإجرام في بيوتهم. غير أنّ المرحلة فرضت أدوات لعبة لم تكن دارجة في الثمانينات والتسعينات، إذ بات السّلاح في متناول يد الجميع، وهو متوفّر لدى الصغير قبل الكبير، وعند الضعيف قبل القوي. والكثير ممن يشعرون بأنّ العدل في هذه المدينة لا يواتي مصالحهم أو تطلعاتهم أو يشعرون بالغبن، نراهم يلجؤون إلى السّلاح وإلى إحلال العدل على طريقة بطل "الجريمة والعقاب".
الكثير من الأهالي يقمعون أبناءهم في البيوت، وفي مرحلة معيّنة يتمرّد هؤلاء على آبائهم ويخرجون إلى الشوارع ليثبتوا رجولتهم من خلال البحث عن ضحايا محتملين، ولتصريف الكبت الذي اختزنوه لسنوات طويلة. على كلّ منّا أن يسأل نفسه عن نوع العنف الذي يمارسه في بيته، فهو مهما كان ضئيلاً أو عابرًا فإنّ تداعياته خطيرة وهدامة على نفسيّة الضحيّة.
علينا أن ندرك بأنّ المسؤولية في مثل هذه الحوادث المؤسفة تتوزّع على ثلاث فئات: الشّرطة، البلديّة والأهل. فيما يخصّ التقاعس الذي نلمسه من الشرطة فهذه سياسة معمّمة على كافّة القرى والبلدات العربية، وقد تعوّدنا عليها، وأمّ الفحم ليست استثناء. ثمّ لا أتصوّر الحلّ في أن تقوم الشّرطة بجمع السّلاح من حامليه، فهي وإن نجحت في ذلك فإنّ عقلية العنف تبقى موجودة، والنيّة لممارسته تظلّ واردة. على الشرطة أن تعالج العنف الآني، بينما على البلدية أن تعالج أسبابه البعيدة. لا يتصوّرنّ عاقل أنّ ثمّة وصفة سحريّة قادرة على القضاء على هذه الآفة في ليلة وضحاها، فنحن إزاء وضع مأزوم يتطلّب علاجه الكثير من العمل والمثابرة، وربما الانتكاسات. وعليه، فإذا كانت لهذه البلدية النيّة الخالصة للمساهمة بمعالجة الوضع عليها أن تتعلّم الإصغاء لأصحاب التخصّصات من خبراء تربويين ونفسيين واجتماعيين. وعلى رئيس البلدية أن يعطي الخبز للخبّاز، وأن يصرف نظره عن فكرة أنّه رجل دين بوسعه أن يعالج كلّ مشكلة في هذا البلد بصفته كذلك. من هنا، فإنني أرى ضرورة أن تبادر البلديّة، وبأسرع وقت، إلى عقد مؤتمر حول العنف يشارك فيه مهنيّون غير مرتبطين بالبلدية، ومن كافّة التخصّصات، على أن تنبثق من هذا المؤتمر لجان مختلفة تباشر بصياغة مشروع شامل هدفه النهائي هو معالجة العنف موضعيًّا. لن يكون مؤتمر كهذا ذا جدوى ما لم تتعهّد البلدية سلفًا بتبنّي طروحاته وتوصياته، وما لم تلتزم برصد الميزانيّات الخاصّة لتنفيذ مقرراته. إنّ تملّص البلدية من مسؤولية كهذه يعني مزيدًا من الانهيار في البنية الاجتماعيّة لهذه المدينة المنكوبة، وبالتالي فإنّ قريشًا برمّتها لن تشفع لها ولا لرئيسها الذي أذكّره بما كتبته له مرّة: "لا تفاخر ببناء مدرسة ، بل فاخر ببناء إنسان". هنا تحديدًا تتجلّى مسؤوليّته، في تنشئة إنسان واعٍ وفخور بنفسه وببلده، وليس في تكريس صورة الإنسان المحبط والمحروم من أبسط الخدمات التي تتوفّر في أيّ مكان خلا مدينته هو.
وأخيرًا، لا يمكن لي إلّا أن أتوجّه إلى "الشياطين الخرس في هذه المدينة"، إلى المثقفين والأكاديميين الذين أنتمي إليهم، أقول لهم: دع عنكم الاستنكار والشجب، فهذا غير لائق. ترجموا غيرتكم إلى عمل بإنشاء جمعيّات، كلّ في مجال اختصاصه، ومن خلال موقعه ووفق خبرته، وباشروا العمل، فإذا حاسبكم التّاريخ يومًا وجد في ميزان حسناتكم ما يشفع لكم.
[email protected]
أضف تعليق