تشهد البرازيل مرحلة حاسمة، التوتر واضح والاستقطاب المتزايد للمجتمع البرازيلي حول مصير الرئيسة روسيف يبدو جلياً. نشهد في وسائل الإعلام، وفي الشارع، وفي مختلف مؤسسات الدولة، كيف يأخد كل من أنصار الجانبين مكانه. فالخطة ذاهبة إلى أبعد من شخصية الرئيسة روسيف، نحو الإنقضاض على المكاسب الاجتماعية التي تحققت بفضل الشعب البرازيلي والديمقراطية.
بعد أكثر من عقد من الحكومات التقدمية بقيادة حزب العمال، قد يعود اليمين النيوليبرالي البرازيلي إلى السلطة. إلاّ أن تلك العودة لن تكون نتيجة تصويت شعبي في انتخابات شفافة وديمقراطية. بل إن الأمر مختلف تماماً في هذه الحالة. إثر تنفيذ خطة تم وضعها في واشنطن، وشاركت فيها وكالة الأمن القومي الأميركي، وأيضاً الأوليغارشية البرازيلية ووسائل الإعلام والقضاة الفاسدين والأحزاب اليمينية التي تسيطر على هؤلاء، قرّر أمس الأحد أعضاء الكونغرس البرازيلي إقالة الرئيسة ديلما روسيف. إقالة يترتب على مجلس الشيوخ أن يقول الكلمة الأخيرة فيها لجهة المصادقة على قرار مجلس النواب، فيقيل الرئيسة ديلما من منصبها لمدة 180 يوماً إفساحاً في المجال أمام المحاكمة، ليتولى عندها الحكم نائب الرئيس ميشال تامر، على أن تجري الإنتخابات العامة في نهاية العام.
ورغم المظاهرات الحاشدة بشكل هائل من كلا الجانبين الشهر الماضي، اتسمت الساعات الأخيرة بمفاوضات "خجولة" بين الأحزاب والتشكيلات السياسية وأيضاً بالضغط على النواب المتردّدين.
ما يحدث في البرازيل هو محاولة لقطع ولاية سلطة شعبية لرئيسة منتخبة شرعياً. محاولة مبنية على مبررات حول اتهامات بالفساد من دون أي حجج أو براهين جدّية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المروجين الرئيسيين لهذه المحاولة الرامية إلى تغيير النظام هم عبارة عن حفنة من النواب المتورطين في العديد من حالات الفساد المفرط بما في ذلك رئيس مجلس النواب البرازيلي إدواردو كُونْها الذي ورد اسمه مراراً وتكراراً في فضيحة "أوراق بنما" وميشال تامر نائب رئيس الجمهورية، الحليف السابق لحزب العمال والذي خان حليفه في اللحظة الأخيرة.
إن عملية القرصنة لخوادم أنظمة حواسيب بتروبراس PETROBRAS من قبل وكالة الأمن القومي الأميركي والكشف عن بيانات حول حالات الفساد في مؤسسة النفط الحكومية، والتي تورّط فيها مسؤولون حكوميون كبار، وبتواطؤ كامل من جانب وسائل الإعلام الإمبريالية عبر حملات تشويهية شنّتها ضد شخص الرئيسة ديلما بشكل خاص، وضد العديد من القادة والعملية السياسية التقدمية بشكل عام، كلها أمور تشير بالتأكيد إلى وجود استراتيجية مرسومة من قبل الولايات المتحدة لاستعادة الأرضية المفقودة في أميركا اللاتينية. والبرازيل ليست لاعباً رئيسياً على المستوى الإقليمي فحسب، إنما أيضاً على المستوى العالمي بصفتها عضواً في مجموعة البريكس التي ترمز إلى ولادة عالم متعدد الأقطاب هو النقيض لعالم خاضع لهيمنة الولايات المتحدة الأميركية. حملة الاستعادة هذه استفادت بلا شك من الصعوبات الاقتصادية التي ضيقت الخناق على شعوب أميركا اللاتينية بسبب الأزمة الاقتصادية. ومن انخفاض أسعار المواد الأولية الذي كان كالضربة القاسية للحكومات التقدمية التي واجهت نماذجها الإقتصادية والسياسية عوائق وصعوبات.
ومع انخفاض الدخل من مبيعات المواد الأولية، اشتدت حدة المنافسة بين الأوليغارشيات المحلية من جهة والشعوب من جهة أخرى. فدخلت سياسات "الاستثمار الاجتماعي" أو الخدمات الإجتماعية التي تتبعها الحكومات التقدمية في منافسة مع البرجوازية الطفيلية القادرة على تأمين مداخيل فردية أفضل، من خلال الإستيلاء على المداخيل العامة. حتى إذا حاولت الحكومة الحد من ذلك على حساب الاستثمار الاجتماعي، تُخْرِجُ البرجوازيات مخالبها وتعمل كل ما يلزم لاستعادة السلطة السياسية والسيطرة الكاملة على عائدات البلاد.
وهذا لن يفاجئنا في هذه المرحلة من المباراة! فالمأساة تكمن حقيقة في أنه بعد مضي أكثر من عشر سنوات في السلطة، لم نتمكن من الحد من نفوذ ومن تأثير البرجوازية واليمين على مجتمعاتنا كما أننا لم نمسْ (أو ربما مسسنا بمقدار قليل جداً) بقدرتها على الإستيلاء على مداخيل كثيرة عبر التهرب من ضرائبها.
وعلى غرار ماكري في الأرجنتين، حيث عاد اليمين إلى السلطة واستولى على الإيرادات وعظّم أرباح كبار رجال الأعمال على حساب شعوبنا من خلال سلسلة من التدابير والإجراءات التقشفية غير الشعبية وخصخصة مؤسسات الدولة العامة، فإن لا شيء من هذا بجديد.
إذاً كيف سيكون رد فعل ديلما وحزب العمال، في هذا السياق، في حالة الانتصار على محاولة الإنقلاب الناعم؟ هل سنظل نعتقد أن سياسة التعايش السلمي بين المصالح الشعبية ومصالح البرجوازية اليمينية ممكنة؟
في مقابلة بتاريخ 12 نيسان/ أبريل 2016 مع موقع "بريد المواطنة" correiocidadania.com أعلن زعيم "حركة العمال بلا أسقف" (MTST) أن "المخجل بالنسبة لحكومة ديلما هي أنها تواجه خطر الإقالة ليس لأنها واجهت كما يجب مصالح المهيمنين مادياً بل لأنها لم تتمكن من المضي قدماً بسياسات الطبقة الأوسع في المجتمع".
من المؤكد أن تغييراً في السياسة نحو مزيد من تجذير التقدمية يحتاج إلى تعبئة غير مسبوقة للشعب البرازيلي، تتزامن مع وقوف شعوب القارة اللاتينية إلى جانبه، لإعادة تعريف مفهوم "التقدمية" و"التكامل" في أميركا اللاتينية.
وفي حين أن ديلما تحظى بدعم معظم المنظمات الشعبية والأحزاب اليسارية البرازيلية وبتضامن بلا ثغرات من قبل الدول التقدمية الأخرى في أميركا اللاتينية، تصبح المفاوضات والاتفاقات مع الجهات "الرخوة" المترددة، سبباً لتختار الرئيسة ديلما في حال خرجت منتصرة من هذه الأزمة، الاستمرار في سياسات التسويات والإتفاقات الحبية من أجل ضمان استمرار الحكم، الأمر الذي سيترجم، في إطار الأزمة الاقتصادية الحالية، بمزيد من تدابير التقشف والقمع للتحركات الاجتماعية.
أما في حال انتصر مخطط العزل، فستدخل البرازيل في مرحلة معقّدة تكون سمة السلطات فيها اللاشرعية وتبرز فيها الحاجة الملحة إلى إعادة بناء قاعدة لتحالف يساري قادر على الفوز في الانتخابات أواخر هذا العام.
وفي الحالتين، فإن الشعب البرازيلي مدعوٌ للتعبئة والتحرّك للدفاع عن حقوقه.
[email protected]
أضف تعليق