عيد "الأم" أصبح سلعة تجاريّة لدى أصحاب المحلاّت، جذب العديد من الأبناء والبنات، لشراء هديّة رمزيّة كتعبير عن "تقديرهم" لأمهاتهم!! رغم أن هذه ظاهرة اجتماعيّة انتشرت منذ عشرات السّنين، ما زالت تناسب عقلية الأم التقليديّة، التي تُفضّل أن ترى أولادها مُهذّبون ومحترمون من أن يُقدّموا لها الهدايا، فهي تعتبرها عبئًا شخصيًّا عليها، لأنها ستتولّى مهمّة تبديلها، في حال وجدتها لا تناسب سنَّها أو ذوقها، وغالبيتها تكون من الملابس، فتقوم هذه الأم بجولة مكّوكيّة بين بيتها والمحل بحثًا عن ذوقها، لإتمام صفقة تبديل الأسرى... عفوًا الملابس.
هذه الهدايا تلائم ذوق الأم التقليديّة التي عاشت زمنًا جميلاً، عندما كانت تضع وسائد تضحياتها، تحت رؤوس أبنائها، كي يرتاحوا، أو لتُخفّف عنهم الأوجاع، فيغفون بسُرعة على سرير حنانها، الذي كانت تهزّه برموش سهرها، لأنّه لم يكُن هناك شيء آخر يُشغلها عنهم، سوى الأعمال المنزليَّة، والاعتناء بهم، وتلبية متطلباتهم المعقولة آنذاك.
من جهة أخرى فرَض علينا عصرنا العجيب، ظاهرة الأم المستحدثة، التي "ملّت" من لعِب دور الأم الرّوتيني، على مسرح حياتها اليوميّة... التي أنهكتها مُلاحقة أحدث موضة الأزياء لتكسو واجهة أنوثتها، لذا كحَّلت نظرها بكُحُل الألوان الحادّة لشاشات الهواتف الذّكية، وانضمّت إلى الأمهات "السّابحات" في بحر الترفيه العنكبوتي الآني، الذي أوقع حب استطلاع هذه الأم في شِباكه، فالتزمت بمعاييره العالميّة... تسير على نهجه بانضباط تام كجنديّة في استعراض عالمي للتكنولوجيا، الذي يقوده بقوّة موقع الفيسبوك.
عيد الأم الأخير، الذي احتفلنا به، كاد موقع الفيسبوك ينهار من شدّة حب الفتيات لأمّهاتهن، أو لكثرة "شَغَف" الأمّهات العصريات بحمواتهن، ونَشر الصور "المعبِّرة" معهن أو مع الأحفاد!! ولكن في هذه المتابعة الشّيقة، تجد في الكواليس حُفرة واسعة في العلاقة اليوميّة بين الأم وكنّتها، مليئة بالمعاتبات والتّدخلات غير المرغوبة، التي لا تُحبّذها الكنّة، يعني الفيسبوك مجرّد أداة تجميليّة، تُجمّل العلاقات الاجتماعية!!
هكذا ارتقت الأم من منزلة الأم العاديّة إلى درجة عصرنة تصرّفاتها، فغدت نجمة مجتمع وهمي، أوجده لها الإنترنت... وأتقنت فن التواصُل الاجتماعي مع أحبائها وصديقاتها من خلال موقع الفيسبوك، الملهى المنزلي، وباتت تقرأ آخر المستجدّات الإخباريّة... عفوًا الاجتماعية، الحاصلة على الساحة الخاصة العامّة، أو تختلي لوحدها في إحدى زوايا الفيسبوك، لتفتَح قنوات تعارُف جديدة مع أشخاصٍ مجهولي الهويّة، كنوع من التّشويق، هكذا أوجَدَت لأوقات فراغها، ملهاةً تقنيّة، دائمة التحديث بسرعة!!
عِوَض أن تقوم هذه الأم العصريّة بأعمالها الضّروريّة، وما يلحقها من تحضيرات، تنفرد بنَشر صور من مناسباتها، أو تنشُر إبداعاتها اليدويّة من مأكولات شهيّة، أو حَلْوَيات على الفيسبوك، لتحظى بأكبر عدد من أصابع الاتهام، عفوًا أصابع الإبهام من الصديقات، تعتقد هذه الأم لسذاجتها، أنه كلّما ارتفعت درجة حرارة الإعجاب في فُرن الأون لاين، كلّما كانت نكهة مأكولاتها أشهى، لا تعلَم أن طيور رفيقاتها التي تضع فراخ إعجابها في عش صورتها، هي بدعة لا أكثر ولا أقل، لأن هؤلاء المعجبات، من نفس فصيلة الأمهات المنتميات إلى نادي "النّساء العابثات"!!
إذا أرادت الأم العصريّة بعض الخصوصيّة، تلجأ إلى تطبيق "الواتس أب"، هكذا تفتتح صباحها بعقد جلسات منفردة مع بعض جهات اتصالها المزوّدة بهذا التطبيق... وعِوَضَ أن تشرب فنجان قهوتها الصّباحي مع من حولها، باتت "ترويقتها"، باللجوء إلى مجموعاتها التي أنشأتها أو انضمّت إليها على الواتس أب، لتقرأ خبرًا عاجلاً في صحيفة "الاجتماعيات"، التي تصدرها صباحًا إحدى صديقاتها.
أو تجد التي تحتاج إلى مرافقة في مشوارها، وكل ذلك يتم بدون أن تتكلّم أو يسمعها أحد، فقط تُرسِل رسائلها السريّة لجهة معيّنة، بطباعتها بمهارة غير مسبوقة على لوحة المفاتيح الظّاهريّة المُدَمَّجة بجهاز السمارت فون، يعني أصبحت هذه الأم، أمًّا منفصلة عن عالمها الأُسري، تنسى أنها مُلزمة بتلبية احتياجات أهل بيتها ومحتاجاته!!
هذه هي حكاية الأم العصريّة المنخرطة تمامًا في مطالعة الكتُب... عفوًا في مطالعة السخافات التي تملأ صفحات الفيسبوك، هذه هي الأم التي تخلّت عن دورها كأم ترعى شؤون أسرتها، فقدت التّواصل الشّخصيّ مع أولادها، الذي أصبح متضاربًا فكريًّا، وعابرًا لأي اعتبارات تربويّة، إذ يعتقد الأبناء أن إطاعة الأم، فيه تحجيم لاستقلاليتهم الشّخصية.
الأم العصريّة تعيش اليوم في مُجمّع إلكتروني كبير، يرتاده ملايين الزوّار يوميًّا، فيه كل ما تشتهيه من مُغرَيات قد يكون بعضها خطيرًا، هكذا تشبّع تفكيرها بثقافة الانفتاح الفوري على العالم، لأنه لم يعُد تُرضي كبرياءها الخروج إلى العمل، بل تبحث عن حريّتها الفرديَّة، بالاستجمام لوحدها في مواقع سياحيّة وهميّة، موجودة على شواطئ الإنترنت الخياليّة.
[email protected]
أضف تعليق