استطاعت التنظيمات التكفيرية حشد الكثير من شباب الأمة الإسلامية تحت راية "الجهاد" ليكون الفعل القتالي نمط حياة بديلاً لهم عن الظروف المحبطة التي يعيشونها لأسباب سياسية، اقتصادية، هوياتية وحتى فردية نفسية.
فشل الحركات الشعبية والحزبية المتنوعة التوجه والأيديولوجيا في حل أزمات العالم الإسلامي، أو حتى في حل المعضلات المحلية للكثير من المجتمعات الإسلامية، ترك المجال مفتوحاً لأي خطاب، مهما كانت سلبياته أو فجواته ليخوض تجربته في الوصول إلى "الخلاص" المنشود، وإن على أنقاض شعوب بأسرها.
نفذت سرديات التكفير من هذه الثغرة وقدمت مشروعاً بديلاً جذرياً وحاسماً يعد بقلب الأوضاع رأساً على عقب والوصول إلى الحالة المنشودة "الحلم الإسلامي المثالي"، في نفس الوقت الذي تقف فيه الحركات التكفيرية في الخندق الأميركي وتتلقى الدعم الكامل من الأنظمة التابعة للغرب.
فصامية متكاملة تعيشها هذه الحركات الطهرانية الظاهر الأميركية الحقيقة، وتعد هذه الثنائية في الشخصية التكفيرية نقطة قوة مركزية لها، حيث استطاعت أن تدبج خطاباً تعبوياً قادراً على حشد الألوف نحو القتال والموت انتحاراً، في الآن عينه الذي تموضع فيه خطابها السياسي وفق مصالح الكتلة الغربية وتوابعها العربية، بحيث تتلقى الدعم الهائل على كل صعيد وتخرج من دائرة الإستهداف الخاصة بالحركات الثورية المعادية للإستعمار، وتنال بذلك وظيفة دولية شديدة الأهمية: مواجهة حركات ودول المقاومة في ظل عجز المقاتل الغربي والإسرائيلي عن المواجهة المباشرة، ما يضاعف من أهميتها لدى جيوش ما بعد الحداثة وأجهزة مخابراتها.
وصل بعض هذه الحركات إلى التوفيق الكامل بين دفتي خطابها، فهي جهادية أميركية مثل "أحرار الشام"، فيما فضل البعض الآخر الحفاظ على ضبابية الخطاب وتلونه ونفاقه مثل "جبهة النصرة" التي تراهن على استقطاب "الجهاديين" المتطرفين كعنصر قوة وتمايز خاص بها رغم تنسيقها شبه المعلن مع العدو الإسرائيلي في الجولان، أما داعش فقدم خطاباً منسجماً في المضمون منافقاً في الكم، فالغرب وتوابعه من العرب لهم جزء لا يذكر في أدبيات التنظيم الذي يكرس جله لمواجهة المقاومة وبيئتها.
بررت هذه الحركات لنفسها تحت عنوان الضرورة التعاون مع المخابرات الأميركية خلال حرب أفغانستان الأولى، على أساس أنها ستحافظ على "جهاديتها" رغم ذلك، والآن أصبحت في الجعبة الأميركية، سلاحاً استراتيجياً بديلاً عن الجيوش العاجزة والباهظة التكلفة، في ظل تحريض طائفي وقومي أعمى جعل المنتسب لهذه الحركات يغفل عن كونه جندياً استعمارياً أميركياً في الحقيقة، كما يغفل عن التناحر الحزبي بين "الجهاديين" الذي يعكس نرجسية قياداتها وطموحاتهم الفردانية المحضة.
ساعد الإعلام المضاد للتكفيريين في بعض الأحيان على استمرار هذه الثنائية، من خلال الترويج لراديكالية هذه الحركات المتوحشة، وعدائها المبطن للغرب، لتخويف الأخير من الاستمرار في دعمها، في حين أن الغرب ليس لديه نقص في معرفة هذه الحركات، بل إن الشعوب الإسلامية هي التي تحتاج لأن ترى هذه الفصامية كما هي، وتسد الفجوة المعرفية المتنامية نتيجة الفوضى والصخب، لتدرك أن مشروع "الخلاص" الذي يقدمه التكفيري ما هو إلا أرنباً جديداً يخرج من قبعة الساحر الأميركي، الذي نجح في تقديم التكفيري كعدو له، في نفس الوقت الذي يقاتل لأجل مصالحه، فوضعه على لوائح الإرهاب وأتاح له أبواب الدعم من خلال وكلاء إقليميين. اجتماع الطهرانية والوظيفية في خطاب وأداء واحد أصبح حالة واقعية مع تطورات الصراع، لكن صورة الطهرانية المتوحشة غلبت في الإعلام، بمختلف توجهاته، فيما بقيت الوظيفية في الخلفية، ولم يواجه الخطاب التكفيري بشكل مباشر، لم يحلل ولم يفكك، بل تم التعامل معه بالإنكار والتهميش، فيما هو مليء بالفصامية والعجز والضعف، والتناقض من كل زاوية، لقد ترك يمارس ثنائيته، التي تحمل بنفسها أسباب تفككه، في الغيتو الخاص به مرتاحاً لهامشيته وانعزاليته.
الغيتو التكفيري هو مفتاح الوظيفية، فحينما تكون البندقية جاهزة للتحول في كل اتجاه خارج الغيتو، تصبح قابلة للتوظيف من الجهة الأكثر قدرة على التمويل والتوجيه والضبط، فالانعزالية هي المدخل نحو التجانس مع الرأسمالية الليبرالية، فتكون الفرقة الناجية هي التي تقف بجانب الإستكبار، وهنا ثنائية الخطاب نقطة مركزية في المشروع التكفيري الوظيفي، في نفس الوقت الذي تشكل فيه نقطة عقب أخيل.
نقلا عن الميادين
الكاتب:
كاتب وباحث لبناني صدر له "السياسة الخارجية الأميركية بين مدرستين"، "مشروع التوسّع الإسرائيلي"، وعدد من الدراسات والمقالات.
[email protected]
أضف تعليق