عُذرًا.. قرّرت بعيدًا عن السّياسات الممقوتة المُستهجَنة، بعيدًا عن يوم الأرض، بعيدًا عن "أخلاقيّات" جنود الاحتلال، بعيدًا عن الجنائيّات، بعيدًا عن الرّشاوى وبعيدًا عن كلّ شيء؛ أن أكذب على نفسي في الأوّل من نَيْسان، وأضلّل جسدي وأوهمه بأنّي لست مريضًا ولا أشكو من أيّ شيء!
بيضاء عفيفة هذه الكذبة، بخلاف تُرّهاتنا وأكاذيبنا وغشّنا وخُدُعاتنا اليوميّة لبعضنا البعض، فنحن نمارس الكذب والرّياء والغشّ والنّفاق ليل نهار، وعلى مدار أيّام السّنة جميعها، ونحتفل فيه رسميًّا في الأوّل من نَيْسان، تحت غطاء "كذبة أوّل نَيْسان"، لنزيد أكذوبة إضافيّة أو أكثر إلى أكاذيبنا اليوميّة.
إنّ غالبية الآراء تشير إلى أنّ "كذبة إپريل" أو "كذبة أوّل نَيْسان"، تقليد أوروپيّ قائم على إطلاق الأكاذيب والإشاعات والأخبار الغريبة من بعض الأشخاص في اليوم الأوّل من نَيْسان، ويُطلق على من يصدّقها اسم "ضحيّة كذبة نَيْسان".
بدأت هذه العادة في فرنسا، بعد أن تبنّى الملك شارل التّاسع عام 1564 التّقويم السّنويّ المُعدّل؛ وحتّى ذلك التّاريخ كان الاحتفال بعيد رأس السّنة يبدأ في 21 آذار (مارس) وينتهي في الأوّل من نَيْسان (إپريل) بعد أن يتبادل النّاس هدايا رأس السّنة الجديدة. وعندما تحوّل عيد رأس السّنة إلى الأوّل من كانون الثّاني (يناير) ظلّ بعض النّاس يحتفلون به في الأوّل من نَيْسان، ومن ثمّ أطلق عليهم "ضحايا نَيْسان"، وأصبحت بعدها عادة المُزاح و"الكذب" منتشرة بين الأصدقاء والأقرباء في فرنسا، ومنها انتشرت إلى البلدان الأخرى المجاورة، ومن ثمّ عالميًّا.
ويرى البعض أنّ هنالك علاقة متينة بين الكذب في أوّل نَيْسان وبين عيد "هولي" المعروف في الهند، والّذي يحتفل به الهندوس في 31 آذار من كلّ عام، حيث يقوم البسطاء بمهامٍّ كاذبة لمجرّد اللّهو والدّعابة، ولا يُكشف عن حقيقة أكاذيبهم إلّا مساء الأوّل من نَيْسان.
أمّا نحن فلا نكشف عن أكاذيبنا..!
حفّزتني السّنة الأخيرة، تحديدًا، وبعد ما عانيته من مشاكل صحيّة وشخصيّة، أن أعيد النّظر ببعض الأشخاص والأمور والعلاقات الاجتماعيّة والشّخصيّة الخاصّة، كنت قد اتّخذت اتجاهًا معيّنًا لسَلكها – نعم، حتّى في مثل هذه السّن أتعلّم وأكتشف أشياءً جديدة يوميًّا؛ فالبعض ممّن قابلتهم انتقى أن يظهر لي، مؤخّرًا، بصورة سلبيّة مغايرة كليًّا عن تلك التي كنت قد بلورتها في ذهني، قد تكون كاذبة أو صادقة، إلّا أنّها معاكسة كليًّا لتلك الصّورة الموجودة؛ حيث لم أعد أعِ أيّتهما هي صورته الحقيقيّة!
قد تصادف أشخاصًا عدّة، يوهمونك بما لا يملكون من حياة سعيدة وعيشة رغيدة ومهنة راقية ومكانة اجتماعيّة مرموقة، فيكذبون بذلك على نفسهم أوّلًا وأخيرًا قبل أن يكذبوا عليك.. آخر يكذب على نفسه ويعلن ولاءَه الأعمى والتّام، وإخلاصه المتفاني للدّولة العنصريّة بجميع مؤسّساتها، رغم أنّه أحد ضحايا هذه المؤسّسات، محاولًا بذلك إقناع نفسه والآخرين بأنّه على صواب.. وقد تجد زوجًا خوّانًا يخدع زوجته طوال ساعات اليوم، يكون صباحًا في أحضان...(!) ولحظة خلوده إلى النّوم ليلًا بجانب زوجته يوهمها بحبّه وإخلاصه لها، فهو الآخر يكذب أوّلًا على نفسه.. وصديقة تغار من أعزّ صديقاتها، وتعمل على الإيقاع بها بأقرب فرصة، تكذب هي الأخرى على نفسها.. والأخ يكذب على أخيه.. الولد على والدته.. الأب على ابنه.. و.. و.. لنجد أنفسنا نعيش في حياة اجتماعيّة مُغلّفة بعدّة أكاذيب.
لا شكّ بأنّنا في أمسّ الحاجة إلى التّرفيه والمُزاح والكذب أحيانًا بين الفينة والأخرى للخروج من الضّغوطات اليوميّة، إلاّ أنّ حياتنا أصبحت مزحةً واحدة كبيرة، وعلاقاتنا أكذوبة أكبر.. علينا ألّا نحوّل الأوّل من نَيْسان إلى يوم وطنيّ يُشغلنا ويسيطر على تفكيرنا، فنتفنّن فيه باختراع كذبة، صغرى كانت أم كُبرى، لأنّ أكاذيبنا وألاعيبنا اليوميّة تكفي وتزيد!
في الأوّل من نَيْسان أشعر بأنّنا أصدق ما نكون مع أنفسنا ومع غيرنا! فعلى الأقل نحن على يقين بأنّنا في هذا اليوم بالأخصّ نكذب على بعضنا البعض قاصدين ذلك من دون "تعليب" أو "تغليف" للكذبة نفسها.
أنا لا أدّعي العفّة والاستقامة، بتاتًا، فأنا فرد من أفراد هذا المجتمع اللّعوب الكذوب؛ ولكن علينا أن لا نحوّل مجتمعنا إلى كذبة واحدة كبيرة من أكاذيب نَيْسان.
دعونا نبتعد عن ممارسة مثل هذه "الاحتفالات" الغربيّة الغريبة، وعدم نسبها إلى أعيادنا واحتفالاتنا.. لنحتفل بأعيادنا الوطنيّة وبأبطالنا، ولنعالج قضايانا الحياتيّة الهامّة، بدل اللّهث وراء أكاذيب نعيشها يوميًّا.
عِشنا وعاش الأوّل من نَيْسان.. عاش.. عاش!
(*) صحافيّ حيفاويّ، مدير تحرير صحيفة "حيفا"
من الصعب الكشف عن حقيقة أكاذيب مجتمعنا طالما نعيش الكذبة ونصدّقها، وننتظر بتلهّفٍ قدوم الكذبة الكبرى!
[email protected]
أضف تعليق