نظمت صحيفة "يديعوت احرونوت"، احدى اهم الصحف الإسرائيلية والأوسع انتشارًا، هذا الأسبوع، مؤتمرًا لمحاربة حملة المقاطعة (الـ ـBDS) برز فيه حضور عدد كبير من الدبلوماسيين والسياسيين، منهم سفير الاتحاد الأوروبي في إسرائيل لارس فابورغ-أندرسون.
بدايةً لا بد من التذكير بالدور الذي من المُفترض أن تلعبه الصحافة المُعرفة نفسها بالمهنيّة، فعلى هذه الصحافة أن تكون حياديّة وتطرح الموضوع -أي كان- من عدة وجهات نظر تاركة للقارئ، باعتباره عقلانيّ، حرية القرار في دعم أي من المواقف المُطروحة، إلا أن تنظيم هذا المؤتمر، واتخاذ الصحيفة موقف المدافع والمحارب لحملة المقاطعة وملاحقة الناشطين، وكأنها المتحدث الرسميّ للحكومة، مؤشر واضح لجوهر الإشكاليّة التي يعاني منها الإعلام الإسرائيلي المنحاز للسلطة السياسيّة والعسكريّة وسلطة المال والمصالح على حساب القيّم الأخلاقية والمهنية والحيادية، فعوضًا عن التعامل مع الموضوع كما هو متبع وفق كل الأدبيات الإعلامية وأخلاقيات المهنة تقوم الصحيفة بتبني موقف حكومي واضح ضد كل من يتجرأ على ابداء رأيه ومعارضة سياسة هذه الحكومة الرافضة للأصوات المناهضة للاحتلال والاضطهاد.
لعل أبرز ما جاء في المؤتمر هو محاولة نزع الشرعية عن حملة المقاطعة مع اختزال واضح لماهية هذه الحملة، ماهية طرحها، ولأسباب نجاعتها مما يجعلها مُهددة (لإسرائيل) لدرجة تنظيم مؤتمر خاص لها كلف الاف الشواكل.
لماذا لم يحاول منظمو هذا المؤتمر طرح الأسئلة التي بالفعل يجب ان تُطرح، كضرورة الوصول إلى تسوية سياسيّة وأنهاء الاحتلال وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية وعودة اللاجئين الفلسطينيين-كما ينص عليه القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة؟! ولماذا لا توجد مساواة وعدالة اجتماعية داخل إسرائيل يمنع تقدمها باتجاه دولة أبرتهايد، خاصةً بعد قوننة عدد من القوانين التي تتسم بالفصل العنصريّ؟!. هذا ما تنادي به حملة المقاطعة الفلسطينية، وهذا ما يقوم به النشطاء الفلسطينيون والإسرائيليون التقدميون والأجانب والأشقاء من العالم العربي من خلال بناء تحالفات تهدف إلى فرض عزلة على النظام الإسرائيلي حتى يخضع لما ذكر آنفًا.
عوضًا عن "سن السكاكين" لمحاربة وملاحقة الناشطين ووصمهم بالإرهاب وبناء المستوطنات ونهب الأراضي من الفلسطينيين والاضطهاد والمضايقات اليومية، كان الاجدر بالصحيفة التي تصف نفسها بالمهنية، طرح الاسئلة الحقيقة والمطلوبة وحث صانعي القرار في إسرائيل للتوجه للحل السلمي، إذا كان هذا هو الهدف من تنظيم المؤتمر-كما ادعى أحد المتحدثين.
إلى ذلك ايضًا، كان من الافضل للشركات المساهمة في هذا المؤتمر، وبدل هدر كل هذه الأموال، حث صانعي القرار على إيجاد حلا للنزاع الإسرائيلي فلسطيني، وليس تشجيعهم على الاستمرار بسياسة الملاحقات السياسية للنشطاء وصلت حد الحديث عن -قتل مدني – (סיכול אזרחי)، كالاقتراح بسحب المواطنة من احد قياديي حملة المقاطعة (عمر البرغوثي)، والذي ذكر بالاسم خلال المؤتمر من قبل وزير الأمن الداخلي جلعاد اردان الذي قال "عن عمر برغوثي سوف تسمعون في الأيام القادمة"، كما وذكره وزير الداخلية ارييه درعي بقوله " في خضم العمل على طلب وضع امامه بسحب المواطنة من عمر البرغوثي"، محولين بذلك "مواطنة" البرغوثي لعقاب على مواقفه المناهضة بالأساس للاحتلال، وهي قيمة أخلاقيّة.
من المؤسف أنّ أبرز الحضور في هذا المؤتمر كان سفير الاتحاد الأوروبي. من جهة، أجد من الغرابة حضوره لهذا المؤتمر وخصوصًا بعد ان أُتهم قبل فترة قصيرة، من خلال منشور ورسم ساخر، بانه معادي لإسرائيل وممولا لـ "عملاء" المجتمع المدني، في فترة يتعرض لها نشطاء المجتمع المدني إلى ملاحقةٍ شرسة وتهديدات مستمرة، آخرها كان تصريح رئيس الدولة، رؤوفين رفلين، وفي ذات المؤتمر، الذي قال ردًا عن سؤال عن منظمة "كسر الصمت" "انهم لن يحملوا اسم مدافعي حقوق الانسان عبثا"، في محاولةٍ منه نزع الشرعيّة عن المنظمة والنشطاء، علمًا أن نشاطهم يصب في محاولة كشف وفضح ممارسات الاحتلال في المناطق المحتلة املا في الدفع نحو تسوية سياسيّة وإنهاء الاحتلال، كما وأضطر ايضًا إلى التبرير للصحافي بن درور يميني أسباب دعم الاتحاد الأوروبي لمؤسسات حقوق الانسان والمجتمع المدني في إسرائيل بعد ادعاء الأول أنّ لهم حصة الأسد في تحريك حملات وحركات المقاطعة. من جهة أخرى، قد أتقبل الادعاء أنّ هذا المؤتمر منحه الحيز الكافي والأوسع لطرح الموقف السياسي الرسمي للاتحاد الأوروبي حيث قال خلال المؤتمر "الاتحاد الأوروبي لا يؤيد حملات المقاطعة، ولكن قرار وسم منتجات المستوطنات يعتمد بالأساس على كونها كيان غير شرعي"، موقف لم يُقابل بالترحيب من قبل الحضور، لكن كنت أرجح كفة مقاطعته المؤتمر على استغلال المنصة لما يحمل الموضوع من مقولة سياسيّة هامة، خاصةً وأنّ الحضور يعرف موقف الاتحاد الأوروبي من الموضوع جيدًا.
في الخلاصة، هذا المؤتمر عكس الكثير من التناقضات على الساحة الإسرائيلية، ليس فقط إعلاميًا (ما بين المهنية وتبني أجندة سياسيّة)، إنما سياسيًا. فمن جهة يدعي صناع القرار في إسرائيل أن حالة الذعر من حملات المقاطعة غير مبررة فهي غير مؤثرة ومن جهة أخرى ينظم مؤتمر خاص باستثمار كبير لمحاربة ومواجهة وتحديد استراتيجية عمل لمواجهة حملات المقاطعة. إذا كان الادعاء بعدم التأثير صحيح فلماذا كل هذا التهويل وهدر الأموال الطائلة وعقد مؤتمر ضخم مثل هذا المؤتمر؟! من الواضح ان إسرائيل تخشى النضال السلميّ الذي اتخذه الفلسطينيون والداعمون للحق الفلسطيني بتقرير المصير في العالم، فإسرائيل قادرة على تسويق وتبرير سياستها العسكرية للعالم مقابل المقاومة المسلحة، إلا أنها غير قادرة على مواجهة آليات النضال السلميّة، خاصة وأن هذه الآليات تجمع حولها شريحة كبيرة من المناهضين للاحتلال وداعمي حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
[email protected]
أضف تعليق