بعد رحلة طويلة من المعاناة جالت خلالها حركة حماس، أرجاء الأرض بحثاً عن مستقرٍّ لها، وحلول لأزماتها، عادت إلى بوابة القدر الذي تفرضه الجغرافيا السياسية، التي تملك مفاتيح القوة والفعل، عادت إلى مصدر الحكمة الذي أدركه الراحل الكبير ياسر عرفات كل الوقت. أن يصل وفد رفيع المستوى من حركة حماس إلى القاهرة، وأن يفتح أمامه معبر رفح بصورة استثنائية نادرة، هذا أمر يصعب تخيله في ضوء واقع العلاقة بعد التصريحات الاتهامية التي أدلى بها وزير الداخلية المصري قبل أيام قليلة.
من السذاجة بمكان الاعتقاد الذي يذهب إليه البعض في تفسير ذلك على أنه شكل من أشكال الاستفادة الحمساوية من التناقضات بين الأجهزة الأمنية المصرية، بمعنى ان المخابرات المصرية وغيرها من الأجهزة الأمنية المصرية ليست على دراية أو انسجام مع ما صرح به وزير الداخلية.
إن من يستند إلى هذا التقييم الخاطئ يتجاهل تماماً واقع الحال في مصر، ويصل إلى استنتاجات مدمرة، إذا كان يبحث عن حلول للأزمة بين الحركة والكبيرة مصر. الملف كله من ألفه إلى يائه سياسي بامتياز، وأعتقد أن الوفد الحمساوي الذي وصل إلى القاهرة، يفهم تماماً، ان عليه أن يكون جاهزاً للإجابة عن الأسئلة الصعبة التي سيطرحها الطرف الآخر. أمام وفد "حماس" حدثان كبيران، فعدا الاتهامات التي وجهها للحركة وزير الداخلية المصرية، هناك قرار عربي على مستوى وزراء الخارجية تحفظ عليه وزيرا خارجية العراق ولبنان، ويقضي باعتبار "حزب الله" جماعة إرهابية، وبغض النظر عن الجدل الذي يدور حول مدى سلامة هذا القرار فإنه ينطوي على أبعاد سياسية خطيرة، لا تقف عند حدود التجاذبات والاصطفافات السياسية الجارية في الإقليم وإنما يتعداه، إلى استراتيجيات التعامل مع إسرائيل، بما أن "حزب الله" يمثل عنواناً لمقاومة لا تحبذها الرسميات العربية. قبل ذلك كانت مصر، ولحق بها عدد من الدول العربية، قد صنفت جماعة الإخوان المسلمين، التي تشكل "حماس" ذراعها الفلسطيني، على أنها جماعة إرهابية. هذه وقائع صعبة لكنها وقائع موجودة لا يمكن تجاهلها أبداً من قبل صناع السياسة، والباحثين عن حلول سياسية كالتي تواجهها الحركات الفلسطينية. هذا يعني أن ما بعد اللقاءات التي سيجريها الوفد في القاهرة، لن يكون كما كان الحال قبلها، خصوصاً فيما يتعلق بالملفات التالية: أولاً، يقف على رأس اهتمامات مصر، موقف حركة حماس من علاقتها بجماعة الإخوان المسلمين التي تناصبها العداء.
في الواقع أعلنت "حماس" أكثر من مرة وعلى لسان أكثر من مسؤول وقيادي، انها حركة وطنية فلسطينية وحسب، وانها ليست على أي مستوى من العلاقات التنظيمية والإدارية مع الجماعة، وان الصلة فقط محصورة بالبعد الأيديولوجي. بالتأكيد المصادر المسؤولة في مصر، تتابع هذه التصريحات، وهذه المصادر ليست مهتمة بالاستماع إليها مرة أخرى، ولا لأن يؤكد وفد "حماس" مصداقيتها نظرياً، فالقاهرة تنتظر ترجمات عملية لمثل هذا الموقف. ثاني هذه القضايا، يتعلق بعلاقات "حماس" وتحالفاتها، وحيث ينبغي عليها الاعتراف والتعامل بملموسية مع كون مصر، هي بوصلة هذه العلاقات وهي مركزها. يحق للفلسطينيين أن يسعوا للارتقاء بقضيتهم فوق الخصومات والعداءات العربية والإقليمية وأن يبتعدوا عن المحاور، وعمليات الاستقطاب الجارية، ولكن عليهم أن يدركوا أنه ليس بمقدورهم أن ينجحوا في الخروج عن السياق العام لحركة السياسة العربية خصوصاً في هذه الظروف المعقدة على المستويين العربي والإقليمي. ثالث هذه القضايا، يتصل بالملف الأمني، هذا الملف يطرح بأفقه السياسي، وليس بتفاصيله. أشك كثيراً بأن يجري النقاش حول تفاصيل وأحداث وأسماء، ومدى صحة الاتهامات فالمطلوب هو أن تتعاون حركة حماس مع مصر في ملف سيناء.
"حماس" تملك معلومات واسعة عن الجماعات التي تقاتل النظام في سيناء وعن أسماء ومواقع، وتسليح وعلاقات، وتدريب، بناء لما سبق في مراحل ماضية. لسان حال الطرف المصري يقول: أنتم تتحدثون عن حرصكم على الأمن القومي المصري، فماذا أنتم فاعلون، لحماية الأمن القومي المصري، عدا استقرار الوضع الحدودي؟ الملف الرابع، يتصل بالمصالح المتعطلة، منذ سنوات، حيث يجري الحديث كل الوقت عن الوثيقة المصرية كأساس، وعن دور مصر الأساسي، بينما يذهب الفعل في اتجاهات أخرى وعواصم أخرى بعيداً عن مصر. صحيح أن حركة حماس أبدت رغبة وحرصاً كل الوقت، على أن يعود الملف للقاهرة، لكنها لم تتوقف عن البحث عن عواصم أخرى وأدوار أخرى، ما جعل هذا الملف ذرائعياً بامتياز. في القاهرة ليس مطلوباً من حركة حماس أن تكرر مواقفها المعروفة من آليات تنفيذ المصالحة، بما أن ذلك لم يحقق تقدماً، وإنما المطلوب لإنجاح المصالحة، في وقت لا تحتمل فيه مصر الفشل هو الاستعداد لتقديم تنازلات تسمح بإنجاح المصالحة. حركة فتح على الأرجح في صورة ما يجري قبل وبعد، وهي تنتظر أن تثمر اللقاءات مع القاهرة، ما يقنع الحركة بضرورة التوجه بشكل حقيقي لدفع المصالحة، في هذه الأوقات السياسية العصيبة التي تمر بها القضية، والوضع الفلسطيني برمته.
ما تبقى من ملفات سواء ما يتعلق بمعبر رفح، أو بمرور البضائع إلى القطاع، وأية قضايا إدارية أخرى، هي تحصيل حاصل، فإن نجحت اللقاءات في تبديد الغمامات السوداء، فإن قطاع غزة، سيشهد انفراجة، لا بل إن المناخ السياسي الفلسطيني سيتبدل تدريجياً، لأن الحديث يدور عن مصر الكبيرة والفاعلة إقليمياً ودولياً، والقادرة على ضمان أي اتفاق بين الفلسطينيين المنقسمين. -
[email protected]
أضف تعليق