بعد مرور أكثر من ستة أشهر على بداية الحملة الانتخابية لانتخاب رئيسٍ للولايات المتحدة، بإمكاننا القول ان انتخابات 2016 التمهيدية هي الأكثر إثارة وربما الأهم في تاريخ أمريكا الحديث. لأول مرة يتصدر النتائج الاولية للانتخابات التمهيدية مرشحان شعبويان هما برني ساندرز في الحزب الديمقراطي ودونالد ترامب في الحزب الجمهوري.
في الاشهر الستة الاخيرة هيمن دونالد ترامب على الاهتمام الإعلامي والنقاش السياسي في امريكا والغرب بسبب تصريحاته الفاشية تجاة الاقليات وتصرفاتة غير الدبلوماسية تجاه زملائه المرشحين. ظاهرة ترامب جعلت الإعلام يتغاضى عن ظاهرة سياسية أكثر اهمية وتأثيرا على السياسة الأمريكية والعالمية وهي صعود المرشح الديمقراطي برني ساندرز.
بدأ ساندرز ذو الـ 74 عاما حملته الانتخابية كظاهرة صوتية هدفها الضغط على هيلاري كلينتون، صاحبة الحظوظ الاوفر بالترشح لتبني مواقف أكثر يسارية. ولكن ومع تطور الحملة الانتخابية والمناظرات الحزبية تمكن ساندرز من إغلاق الفجوة في الاستطلاعات. في شهر كانون الأول من العام الماضي أشارت أغلب التوقعات إلى انتصار مريح لكلينتون في ولايتي ايوا ونيو هامبشر، ولكن تمكن ساندرز من التعادل في ولاية ايوا كما وسحق كلينتون في ولاية نيو هامبشر بفارق 20% من مجمل الأصوات. بعد انتخابات ايوا ونيوهامبشر، يتوقع أغلب المحللين أن تكون الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي طويلة جدا، كما أن فوز كلينتون لم يعد مضمونًا بتاتا.
تكمن أهمية ظاهرة برني ساندرز كونه يصنّف نفسه اشتراكيا، وهي أول مرة يتمتع مرشح اشتراكي بدعم واسع في داخل الحلبة السياسية الأمريكية. فكما هو معلوم، أمريكا هي منبت الليبرالية الاقتصادية الحديثة وتفتخر دائمًا بهويتها الرأسمالية وكونها موطن الاثرياء. لذالك يعتبر صعود نجم برني ساندرز بمثابة صفعة قوية للثقافة السياسية المهيمنة على الولايات المتحدة منذ نشأة الجمهورية الامريكية عام 1776.
ظاهرة ساندرز جعلت الكثير من المحللين يتسألون، كيف لرجل اشتراكي في العقد الثامن من عمره أن يصبح مرشحا مقبولا لدى شرائح واسعة من الشعب الامريكي وهل بإمكانه أن يفوز بالانتخابات أمام المرشح الجمهوري في حال فاجأ الجميع وانتصر في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي؟
الاستطلاعات تشير أن لساندرز حظوظا أوفر من كلينتون بالانتصار على أي مرشح جمهوري، كما وأن المصوتين الجمهوريين لا ينظرون اليه بنفس الريبة والكراهية التي ينظر بها لكلينتون في دوائر اليمين الامريكي.
اما بالنسبة لشعبية مرشح اشتراكي بين عموم الشعب الامريكي فبامكاننا أن نتحدث عن سببين رئيسيين يجعلان من شخص كان يعتبر قبل عدة سنوات "يساريا متطرفا" مرشحا ذا حظوظ لقيادة العالم. السبب الاول هو الركود الاقتصادي الذي تعيشة الولايات المتحدة نتيجة الأزمة المالية عام 2008. بالرغم من ان الرئيس اوباما نجح باعادة تنشيط الاقتصاد ورفع معدلات النمو، الجيل الشاب لم يربح من هذا النمو. نسبة البطالة بين الشباب تصل إلى 10% كما وأن المتخريجين الجدد من الجامعات لا يجدون وظائف تلائم شهاداتهم الجامعية. لذالك عماد الدعم الشعبي لساندرز يأتي من طبقة الشباب الذين صوتوا له بنسبة 80% بالنتخابات التمهيدية.
السبب الثاني يكمن بالتحول الثقافي والاجتماعي التي تشهده أمريكا منذ نهاية الحرب الباردة. فلم تعد الولايات المتحدة تلك الدولة البروتستانتية المكونة أساسا من أشخاص ذوي أصول أوروبية. الأمريكي الجديد متنوع عرقيًا ودينيا فتجد الأبيض والأسود والبروتستانت والكاثوليك واليهود بالإضافة للأقليتين الجديدتين نسبيا وهم ذوي الاصول اللاتينية والاسيوية بالاضافة لمجموعات أخرى لها نظرة سياسية وثقافية مختلفة عن الأمريكي الأبيض. فحسب مركز بيو للاستطلاعات، في العام 1980 تشكلت خارطة الناخبين من 80% من البيض و 20% من الأقليات، أما في العام 2016 فنسبة الأقليات تقترب من الـ 40%، كما أن 50% من المولودين الجدد هم من أصول غير أوروبية.
هذه المجموعة الديمغرافية الجديدة المشكّلة من عدة أقليات عرقية ودينية لا تعتبر الاشتراكية فكرًا ذا سمعة سيئة مثل الأجيال السابقة. كما أن الازمة الاقتصادية جعلت الخطاب الاشتراكي الشعبوي الذي يمثلة ساندرز بمثابة الحل السياسي للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها الولايات المتحدة.
من المبكر الجزم إن كان لساندرز حظوظ بنيل ترشيح حزبه، ففي نهاية المطاف ثلاث ولايات من أصل خمسين صوتت في الانتخابات التمهيدية وبقيت 47 ولاية، لكن ساندرز يستمر بإغلاق الفجوة في الاستطلاعات كما حصل مؤخرا على دعم عدة شخصيات مؤثرة في عالم الفكر والسياسية والفن. مشكلة ساندرز الرئيسية تكمن بأنه لم ينجح حتى الآن بإقناع كبار السن وغير المتعلمين بدعمه، فإن نجح باختراق هاتين الشريحتين فسيصبح المرشح الأوفر حظا.
حتى إن خسر ساندرز الانتخابات التمهيدية تبقى الظاهرة التي يمثلها بمثابة ثورة (وإن كانت هادئة) على القيم الأساسية للجمهورية الامريكية. ظاهرة ساندرز هي بمثابة شرعنة الفكر الاشتراكي في الحيز السياسي الامريكي. حتى لو فشل ساندرز فقد نجح في فتح الطريق أمام أجيال جديدة ترفض الاجماع الامريكي حول السوق الحر غير المنظم و تنادي ببدائل اقتصادية للنظام الحالي، أو بكلمات اخرى، أمريكا التي عرفناها لم تعد موجودة وعلينا الانتظار لنرى شكل امريكا الجديدة.
طالب فلسطيني في قسم العلوم السياسية في جامعة هيوستن بالولايات المتحدة
[email protected]
أضف تعليق