أنظر في وجه رئيس الهيئة فأجده أحمر قانيًا وقد ألفته زهريًا طافيًا؛لاحظت أنه، فور دخوله، حملق في صحن القاعة المملوء حتى الشفة، فغلبته المفاجأة

هل يعقل أن القضاة يتوقعون وينتظرون إمكانية من اثنتين: فإذا استعاد محمد صحته سيبقى سجينًا ، كما كتبوا، وإذا ساءت حالته وفقد وعيه أو استشهد فسيصير حرًا! وقفت كي أبدأ مرافعتي، فقاطعني رئيس الهيئة، بدماثة، مشيرًا علي أن أختصر كلامي وأن أتنازل عن مقدّماتي التي درجت أن أتلوها عليهم لافتًا أنه يلاحظ أن القاعة طافحة

على غير عادتي، وصلت باحات المحكمة العليا قبل موعد جلستي بحوالي الساعة. القدس أفاقت من ليلة بيضاء كتلك التي يشتهيها الأطفال الحالمون بصباح كلّه ثلج وكسل؛ أما أنا، فقضيت ساعاتي ورفيقي ليل كله ليل وسفر. فماذا سأفعل لو سدت الطرقات وسجنني الأبيض في بيتي ؟ وهل سيتقبل محمد القيق تبريراتي وقسوة الحظ وخيانة المطر؟

دخلت إلى غرفته في مستشفى العفولة، الذي لا أحبّ زيارته، ففيه سلّم بعض أحبابي أماناتهم ومضوا في رحلة الغيم الطويلة. كان نائمًا وعلى وجهه بقايا صلاة ودعاء. من حوله ثلاثة سجّانين يمارسون فروض الكهنة في معابد تربي العمى. شعره كث يتشاقى كخيوط شمس ناعسة وتحتها فم سرق الجفاف منه رونقًا فبدا كحز تفاحة شققته الريح.
ناديته مرتين فتململ، فاطمأنيت على أنه حي ويسمعني، انتظرت قليلًا وربّت على كتفه ففتح عينه اليسرى التي كانت كأول الربيع، خضراء متعبة وجميلة، حييته وسألت عن صحّته.

حاول أن يخفي عني آلامه، لكنّها كانت ممدّة أمامي وناطقةً. جرّب أن يجيبني، كما كان يفعل في زياراتي السابقة له، لكنه كلّما همّ تعثرت الحروف ووقفت على رأس لسانه. لقد بدا عليه الارهاق، بياض عينيه اكتسى بحمرة مقلقة، حديثه صار متقطّعًا وغير مفهوم، كان يتنفس كالغريق .
مع اقتراب موعد الجلسة يمتلئ بهو المحكمة الفسيح بسنونوات أولى من وسائل الاعلام العربية والأجنبية، ربما في خطوة وفاء خجولة من زملاء صحافيين لزميلهم الصحفي الذي يرقد بعيدًا عنهم ويصارع الموت من أجل أن يحظى بحياة كريمة، إن لن تكون فالموت لأجلها أشرف !
عند اقتراب الساعة من الحادية عشرة والنصف، ملأت وفود المتضامنين القاعة الكبرى، فتمنيت لو كان محمد حاضرًا ليرى ويسمع ويفرح ويقنع، لكنها المحكمة هي التي أمرت، لخطورة وضعه الصحي، حرسَ السجون بعدم جلبه لحضور جلسته.
في الصفوف الأولى برز عدد من أعضاء الكنيست العرب ووراءهم وفود عن منظمات حقوقية يهودية وعربية وبينهم بعض الناشطين المقدسيين في قضايا الأسرى، وعدد من المحامين.

نقف جميعنا عند اعلان الحاجب عن دخول القضاة ونجلس بعد جلوسهم على الكراسي. أنظر في وجه رئيس الهيئة فأجده أحمر قانيًا وقد ألفته زهريًا طافيًا؛لاحظت أنه، فور دخوله، حملق في صحن القاعة المملوء حتى الشفة، فغلبته المفاجأة، وهو الذي اعتاد وزملاءه من القضاة مثلي، أن نسمع تلك القضايا وندير جلساتها وكأنها عروض خاصة بنا وبدون جمهور.

وقفت كي أبدأ مرافعتي، فقاطعني رئيس الهيئة، بدماثة، مشيرًا علي أن أختصر كلامي وأن أتنازل عن مقدّماتي التي درجت أن أتلوها عليهم لافتًا أنه يلاحظ أن القاعة طافحة وذلك في إشارة منه ونصيحة لي أن لا أستغل المنصة للشؤون والمواضيع السياسية العامة.

شكرته على ملاحظته ولفت انتباهه على أنني تعوّدت وعوّدتهم أن أبدأ جميع مرافعاتي بمقدمات عامة، لكنها دائمًا تكون ذات صلة بمواضيعنا، ولطالما فعلت ذلك في قاعة خالية من الجمهور وعلى مسامعهم فقط، ولذلك، لا أرى سببًا، هكذا بإصرار واضح أتممت حديثي، أن لا أفعل ذلك في هذا اليوم لأن من يهمونني هم من يسمعوني من الأمام وليس من هم ورائي، وأملي أن تسمعوني، خاصة وقد جئتكم باسم الأمل، الذي حدثتكم عنه في ملفات سابقة كما تلته روايات شعرائكم أما اليوم فساعلّمكم كيف يجب أن تربوه، فنحن وأولادنا نربيه على طريقة الدرويش.
لم أنتظر إذنهم ومضيت أقرأ عليهم سيرة شعب ينقب عن دولة نائمة: " هنا عند منحدرات التلال، أمام الغروب وفوّهة الوقت، قرب بساتين مقطوعة الظل، نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن العمل : نربي الأمل."

أدار رأسه صوبي، فأحسست ببسمته تنفر من بين شقوق شفتيه، وسألني عن عائلته وكيف يمضون الوقت في عالم أبرد من الزمهرير وتغزوه الثلوج.

حلّفني أن أنقل رسائله البسيطة، التي كانت كرسائل الحمام، لكل من يحبهم ومن يحبونه، هنا وفي العالم، فهو سيمضي، قانعا، إلى حيث رأس الحكمة، وليعذروه إن خانه جسد وأضاعه الطريق.

اتفقنا على موقفنا، بعد أن قيمنا معًا معظم الاحتمالات، وعلى أن لا نعوّل على عدل محكمة نذهب إليها غير مؤمنين بانصافها، بل كي نستنفد هوامش أتاحها لنا، نحن معشر المحامين، احتلال خطط كي تكون محاكمه كسوة لعوراته المجلجلة وساترًا لفضائحه؛ واتفقنا،كذلك، اننا نذهب إلى تلك المنصات كي نتلو، مرّة أخرى، أمام العالم وأنفسنا، تراتيل الخسارة والرهانات الخائبة، عسانا، من فرط الوجع، أن نوقظ من أعرض عن حق شعب ما فتيء ينقب عن ثورة نائمة، أو ربما كي نقنع الرعاة في حقولنا كيف يجب أن تحلب أثداء الزمن وتقرع أجراس الأوطان.
نظر إلي وقال: لقد دعوت لك ولعائلتك بصلاتي أمس، فاذهب وتقديري، إلى حيث البرد والثلج والملتقى. خبأت دمعتي وانسللت وفي صدري عاصفة من زهر. وسألته قبل أن أتركه، إذا كان يعرف أن اليأس أبرد من الزمهرير ؟

لم أخبر القضاة عن دمعتي، فأنهيت مرافعتي أمامهم مطالبًا بالافراج عن محمد فورًا أو بتقديمه إلى محكمة يستطيع أمامها أن يدافع عن نفسه.
خرجنا وعدنا إلى القاعة بعد حوالي الساعة وقد أنهى القضاة جلسة مكتومة مع ممثلي جهاز المخابرات العامة، استمعوا فيها إلى ما لا نعرفه وقرأوا فيها مواد لم نشاهدها، وتلوا علينا قرارهم العجيب.

" لقد اطلعنا على ما يكفي من البيّنات السرية التي من شأنها أن تثبت خطورة الملتمس، محمد القيق، على أمن وسلامة الجمهور، ولذلك نرى أن أمر الاعتقال الإداري الصادر بحقه محق ومبرر، ولكننا لن نعطي قرارًا نهائيًا اليوم بل سنعلق ذلك إلى بضعة أيام على أن نستلم خلالها، وبشكل يومي، تقارير طبية، وبناءً على ما سيرد فيها سنعطي قرارنا النهائي".

وقفت، وقبل أن أستفسر عن معنى هذا القرار خرجت الهيئة من القاعة، وبقيت مع من أحاطوني نتساءل، هل يعقل أن القضاة يتوقعون وينتظرون إمكانية من اثنتين: فإذا استعاد محمد صحته سيبقى سجينًا ، كما كتبوا، وإذا ساءت حالته وفقد وعيه أو استشهد فسيصير حرًا!
هل يعقل.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]