( نصّ مداخلة قدّمها الكاتب خلال حفل إشهار الجزء الثاني من كتاب " حيفا ...بُرقة – البحث عن الجذور" للباحث الدكتور سميح مسعود، الذي أُقيم في مركز محمود درويش في الناصرة، نهاية الاسبوع الماضي)
أَن يَجري إشهارُ كتابٍ تحتَ عنوان "حيفا...بُرقة – البحث عن الجذور" تحديدًا هنا في الناصرةِ وفي مركزِ محمود درويش على وجه الخصوصِ ففي ذلك أكثرُ من دلالةٍ وأبلغُ من معنىً.
لأنَّ في الأمرِ تأكيدٌ على أنَّ الامتدادَ الزمانيَّ والبعد المكاني للوطن، يتجاوزان حدود الذّاكرةِ الشخصيةِ وعمقَ الجذورِ الفرديّةِ، وهذا ما نجح به أديبُنا الدكتور سميح مسعود من على صفحاتِ البحثِ عن جذورهِ الممتدةِ على طولِ الوطن وعرضِهِ وعميقًا في قلب التاريخ. فجاء الخاصُّ تجليًّا للعامّ وبانت تركيبةُ العامِّ من خلالِ تفاصيل الخاصّ.
ومن معاني عَقْد هذه الأُمسية الثقافية في الناصرة أنَّ في المسألةِ جزمٌ على أنَّ هذه المدينة، التي أدمنت على مديح ذاتها بأفعالها، كما أبدع في وصفها شاعرنا الراحل محمود درويش، ليس لأنّها أُمُّ البدايات، فحسب، وأنما لأنها عرينٌ لهوية وعنوان كفاحات وإبداعات ولا تأبه لعثراتِ الزّمان العاصيات.
وأمّا أن أنجحَ بقراءة كتابين يشملان على ما يزيد عن ستّمائة صفحةٍ، وبمتعةٍ ما بعدها متعة، فذلك لعمري إنجازٌ شخصيٌّ غيرَ عاديّ في زمن الوقوع في أسْرِ الشّبكات والتّواصلات الإفتراضيّة، وفي ذلك دليلٌ قاطعٌ أنّنا أمامَ أنتاجٍ أدبيٍّ توثيقيٍّ أستثنائيٍّ، في أُسلوبِهِ وتماسكِهِ، من الصّورةِ الأولى حتى الأخيرة وبتصاعديّة جذّابةٍ حتّى الإدمان.
وفوقَ كلّ هذا وذاك فأن تكونَ القراءة بدءاً من الجزءِ الثاني ومن ثمّ الجزء الأوّل فإنّه سَبَقٌ أُسجّلُهُ لصالحي ولكن ليس قبل أن أوجّهَ الشّكرَ لأُستاذي البروفيسور محمود يزبك الذي تفضّل بتوفير الكتابين لي قبل اسبوعٍ من اليوم.
وهنا لا بدّ أن أُصارحكم القول أنه لم يخطرْ على بالي أني سأكون ضمن هذه الثّلةِ من أصحاب الشأن الأدبيّ والثقافيّ والتأريخيّ وفي مقدّمتهم هذا البلديّاتي الأَصيل أُستاذُنا وصدْر هذه الامسية الدكّتور سميح المسعود - هكذا كنت أسمع اسم عائلته الكريمة ( دار المسعود مع أل التعريف) عندما كنت طفلا أزور قريتي بُرقة، قادمًا من مسقط رأسي الناصرة على غرار تعريف كاتبنا لجدليّة علاقَتِهِ بين حيفا وبُرقة.
عندما هاتفني الاستاذ محمود اعتقدت للوهلةِ الاولى، وكنت علمت مسبقًا بموضوع المبادرة لإقامةِ هذه الأُمسيةِ من صديقي الأُستاذ زياد أبو السعود الظاهر، أَنّه بصدد دعوتي ومعارفي لحضور الأُمسية واذ به يفاجِئُني بطلب المشاركةِ من خلال تقديمِ مداخلةٍ دون تحديدِ موضوعِها وحدودها، فرماني الى آلة العودة بالزمن التي أعدّها لقُرّائِهِ صاحبنا المسعوديّ.
ومن قرأ منكم الكتابين يعرف كم أنا متأثرٌ بإعدادِ كلمتي السرديّة هذه بالأُسلوب السرّدي المسعوديّ ! كما تجلى من على صفحات البحث عن الجذور بجزئيه !
خلال الأيام الفائتة أدخلني الدكتور سميح، عبر آلته الإبداعية، إلى نفق الزمان، فسافرت معه تراجعيًّا إلى تلك الصّور المحفوظة بذاكرتِهِ الوقّادةِ معتمِدًا على بوصلةٍ وطنيةٍ تقدّميةٍ لا يَشوبُها شائبةٌ وتوجّهٍ فكريٍ صريحٍ لا يخجلُ من خلالِهِ بالانحيازِ إلى النّاس الكادحين ونقاباتهم وأُطُرِهِم المكافحة . فصال بي البلدياتي وجال كما يشاء، بين الأحداث وتواريخها والأسماء وشخوصها وجعلني كالجاحظين بالحكواتيّ يتابعون كلّ همسةٍ تخرجُ من فمه ليعرفوا مصيرَ بطلِ الحكايةِ من ذكرياتِهِ الأولى في حيفا حتّى عودتِهِ وتجوالِهِ في أرجاءِ الوطنِ، من يانوح شمالاً حتى عرعرة جنوبًا، مرورًا بشفاعمرو والناصرة واكسال وغيرها، باحثًا عن شروش عائلتِهِ وعائلات أبناء بلده، كان ذلك من مدينته حيفا أم من مسقط رأسه بُرقة وفي لحظاتٍ كنت أتخيّل دقّةَ الصّورِ الموصوفة كتابيًّا وكأنّي أحمل بيديّ كاميرا "الجوجل ايرث" تنقل لي أدقَّ التّفاصيل والأسماءِ والزوايا المخفيّة والثنايا المنحنية في الشوارع والبيوت المحميّة.
ومع تعمّقي في بطن الذّكريات المسعوديّة وَجَدْتَني أمدُّ خيوطَ ذاكرتي القليلةِ كشعراتِ رأسي، لعلّها تتقاطع مع جدايل ذاكرته الكثيفة الوارفة فإذ بي أتذكّر زياراتي ألى بُرقة مع أهلي، ليس من خلال سفر ساعة من الزمن كما كان يفعل كاتبنا طفلًا لوحده بين حيفا و بُرقة، وأنما سفرةٍ تمتدُّ لأكثرَ من نصف نهارٍ، من النّاصرة إلى القدسِ فعذابات بوّابة مندلباوم ( وهنا يحضرني وكيف لا ؟ كاتبنا الكبير الراحل أاميل حبيبي بسداسيّته الرائعة)، فإلى نابلس فبُرقة، واستمرّ الحالُ بهذه الزيارات الى أن جاء "فرج الاحتلال"، فوحّد الشعب من جديد بعد سقوط دُوَلِ شِعار المأساة " تجوّع يا سمك البحر" ومن وقتها، على ما يبدو، بدأ حلّ "شعبان دولتان" يتآكل تدريجيّا لصالح دولة الشعبين والله أعلى وأعلم !
وحين يؤكّد كاتبنا في صفحات الكتاب وفي أكثر من مناسبة على غيرته على الّلحمة الوطنيّة لأبناء بُرقة على كافة إنتماءاتهم ذكرّني بما علق بذهني من ذكريات بُرقاوية ومن ما حدّثني به والدي، رحمة الله عليه وعلى أمواتكم جميعا، واسمه "جورج" وكان في طفولته يعاني من أمراض مختلفة، كما عانيت انت طفلًا دكتورنا سميح وشفيت والحمدلله والله يمدّ بعمرك، وبدايةً بدّلوا اسمه لجريس حتى يشفى فلم يشفع له القديس جريس !! فاقترحت إحدى الجارات المسلمات ان يسمى حسن حتى يشفى ويقوى عوده وفعلّا هذا ما تم فصار اسمه حسن المحصّل حتى شفي بالكامل، و"المحصّل" هذه كنية كانت تلحق اسم العائلة وهي مرتبطة بوظيفة جدي يوسف عبدالله نصرالله محصل الضرائب للدولة العلّية !
أمّا المفارقة من وراء استحضار الصورة الرائعة للمجتمع الفلسطيني في الزمن الجميل من خلال العالم المصغر(الميكرو كوسموس) المسمى بُرقة، فتخيّلوا أن أسمّى اليوم، مثلًا، رائد حسن نصرالله لكنتم رأيتم وسائل الاعلام العالمية بما فيها قناة "المنار" تملأ القاعة لتنقل ماذا سيصرّح الليلة ابن حسن نصرالله ؟!
( ما علينا !)
ولأن الشيء بالشيء يُذكر فلا بدّ من استغلال المناسبة لتوجيه نداء استغاثةٍ وبالذات لأنّي انسان علمانيّ أسمح لنفسي بتوجيه هذا النداء لكل من يهمّه الامر، فلسطينيّا واسلاميّا ومسيحيّا، وبإِسم الرّصيد الوحدويّ المفخرة لشعبنا على صعيد خاصيّة ومناعة وتاريخ نسيجه الاجتماعيّ، بالعمل على وقف النزيف المتواصل بخاصرة ولون وشكل وكيان الشعب والمتمثل بالهجرة المسيحية من الوطن عمومًا ومن داخل القرى المشتركة بطوائفها خصوصًا، فماذا ينفعنا التّغني بالتاريخ الرائع؟ اذا لم يبقَ ذكر للوجودِ المسيحيّ الانسانيّ في بُرقة مثلاً، عدا بعض الأثارات المهدّمة أو اسم مدرسة الدير وحتى بناء مركز اسلامي مسيحي جديد في بُرقة على حوش آل نصرالله ، كما جاء في كتاب أستاذنا سميح، ماذا ينفعنا كل ذلك؟ وكل اهل بُرقة من المسيحيين مغتربين أو يزوروها فقط في موسم الزيتون ليتذوّقوا طعم زيتها الرائع. أو ليأخذوا منها قطعة من بقايا "نمليّة" يحفظوها في بيوتهم في البلاد أو في المهجر، كما فعلت انا قبل سنتين عندما زرتها مع شقيقي رمزي وابنه جورج ونحن في طريقنا إلى نابلس لدعوة ما تبقى من الاقارب في نابلس ورام الله لمشاركتنا فرح ابنته جنان.
وفي العودة الى البحث عن الجذور فقد نجح كاتبنا في تجميع الذكريات، وفتح بعض الأوجاع بعض الاحيان، في لوحة "بازل" لا أروع ولا أجمل، وليس هذا وحسب، وأنما أغنى معركة الروايات الوجودية، بين رواية "ارض بلا شعب" ورواية " لمن وهبت ارض كنعان ؟" التوراتية وتجييرها خدمة للفكر الصهيوني الإستيطاني وبين رواية شجرات الزيتون المزروعة في بُرقة وكل فلسطين منذ عمق التاريخ وحولها سلال التين وصفّ السحجةِ والدبكةِ وأغاني الدلعونا وناس جذورها عميقة وثابتة في وطنها، لن تلدغ من افعى الترحيل مرتين.
ولأنه لا بدّ من أن أُنهي وبعد هذا الإستعراض الموجز لملحمة التشبيك الرائع بين ذكريات الكاتب وذكريات الوطن، بين جذور عائلته وجذور شعبه - شعبنا الفلسطيني ، أقول مبروك لكاتبنا هذا الانجاز،هذا الجهد، هذا الابداع وهذا السلاح- يعطيك الصحة والعافية والشعب يطالبك بالمزيد بالمزيد من العطاء أيّها البلدياتي الجميل .
[email protected]
أضف تعليق