رأيت صورته بعد خمسة عشر عاما من اعتقاله على يد سلطات الاحتلال الاسرائيلي، حملت ابنتي الصغيرة "حلا" الصورة، علقتها في مكتبتها وسألت : ما الفرق بين الامس واليوم في حياة هذا القائد الاسير المكبل بخمسة مؤبدات واربعين سنة؟؟ واخذت ابنتي تحسب السنوات القادمات الباقيات حتى ضجرت وغضبت، ثم اغلقت على نفسها باب غرفتها حزينة تبكي.
أما زوجتي فقالت : انظر الى البراءة والطيبة على وجه مروان، وانظر الى عينيه الحادتين اللامعتين كأنه يرانا جيدا ، وربما يسمعنا ويتحدث الينا ، يسألنا عن أحوالنا قبل ان يغلق السجان عليه كل هذا الليل وتلك الابواب.
بالامس ، وقف مراون البرغوثي يحاكم دولة الاحتلال متمردا على قوانينها العسكرية الظالمة، رافضا الاعتراف بشرعية المحكمة وبالقاضي، وبلائحة اتهام طويلة استهدفت محاكمة الشعب الفلسطيني على نضاله المشروع ضد الاحتلال في سبيل الحرية وحق تقرير المصير.
اليوم، وقف مروان البرغوثي في زمن السجن سيدا، يتفاخر بأنه اكثر حرية من الجلادين والسجانين، حاملا كبريائه الوطني، وذاكرة واسعة من مساحات الارض والسماء وقوة البراهين، ساكنا في سريرة الخلق.
بالامس، عذبوه تسعين يوما في أقبية التحقيق، جولات وجولات، ساعات وساعات، اتهموه انه القى حجرا وصوتا في وجه المحتلين والمستوطنين، وانه حرّك الانتفاضات والهواء في كل الاتجاهات ، حتى خرج البحر الى الجفاف.
اليوم، يعلن الشاباك الاسرائيلي، انه ترعرع جيل آخر من ابناء مروان البرغوثي لا يخاف منا، لم ترهبه اساليب التعذيب والقمع الوحشي ، ولم تصهر وعيه عمليات الضرب والاذلال في أقبية الظلام، جيل قام بحجارته ودمه، بلحمه وجسده ضدنا، حتى اقتنعنا ان استمرار الاحتلال هو الخطر الحقيقي الذي يهدد وجودنا.
بالامس، عزلوا مروان البرغوثي مدة عامين في زنزانة ضيقة قذرة مع الحشرات والفئران والصمت، فانضمت اليه الطيور والنجوم والرياح، دارت به الافلاك فوق السياج، احتفت به الملائكة وهو يجمع الظلام والنور، الحلم والواقع، في سبيكة واحدة.
اليوم، تشتد العزلة الدولية على دولة الاحتلال، من مقاطعة منتجات المستوطنات، ووصف اسرائيل في158وثيقة في الامم المتحدة بأنها دولة ابرتهايد، وان 56% من الدول ومؤسسات المجتمع الدولي والصحافة العالمية تتعامل مع اسرائيل بانها دولة ابرتهايد عنصرية، اقامت الجدران، والحواجز والشوارع الالتفافية وسرقت الارض والمياه، وشكلت انظمة قضائية للتمييز بين الفلسطينيين والمستوطنين، انها دولة الظلام.
بالامس، دعا مروان البرغوثي الى السلام والتعايش المشترك بإقامة دولة فلسطينية مستقلة الى جانب دولة اسرائيل، فاكتشف وهو يمد يده للسلام، ويقدم المعونة الاخلاقية لإنقاذ المحتلين من عقلية الاحتلال، ان الحكومات الاسرائيلية تمارس القوة المميتة في سبيل مواصلة احتلالها والدوس على كرامة الفلسطينيين، فحل الدولتين يذبح الآن علنا في شوارع فلسطين.
اليوم، يسمع البرغوثي ما يقوله الاسرائيليون عن انهيار اسرائيل الاخلاقي، وعن الفساد وانهيار التوازن فيها، عن دولة الشعوذة والهستيريا والتحرش الجنسي، وأن الفاشية بدأت تنضج في دولة اسرائيل ، وانها تتحول الى دولة المعسكر الديني المتطرف، ودولة المستوطنين والسجون، لا ديمقراطية فيها ولا مجتمع مدني ولا مستقبل للحياة.
بالامس، قال لهم مروان البرغوثي لا تعتقلوا الوقت، فالاحتلال الى زوال، وعمليات انكار الاحتلال الممنهجة، وزج ستمائة الف مستوطن في الضفة الغربية والقدس، واعدام الشبان الميداني في شوارع فلسطين، ستحولكم الى دولة منبوذة، والى ثكنة عسكرتارية تعيش فقط فوق الحراب .
اليوم، يستنفر مروان البرغوثي عضلات الشهداء ويبتسم في المؤبد ، وقد حوّل السجن الى جامعة، يرى الاسرى يتقدمون ويصعدون حاملين شهادات كثيرة، شهادة الصمود والكرامة، شهادة القيم الانسانية والتطلع العالي الى الحياة والحرية، شهادة البطولة والكبرياء التي حولت السجانين الى سجناء خلف قضبانهم وأغلالهم الكثيرة.
بالامس، ارادوه رمادا في جرّة، لاحقوه وطاردته الطائرات والصواريخ من مكان الى مكان، وعندما قبضوا عليه، وجدوا انهم القوا القبض على شعب في فرد، ومن سجن الى سجن آخر، ومن زنزانة الى اخرى، كانت حنجرة مروان مليئة بورد اخضر، وان البحر يتموج بين ذراعيه كل سنة.
اليوم، يستنفر مروان عضلات الشهداء في المؤبد ويبتسم ، وهو يقرأ ما كتبه احد الضباط الاسرائيليين خريج اربع حروب بانه لم يخف ولا مرة الا هذه المرة ، يخاف من الحجارة، وهو ابن هذه الدولة التي تملك 250 قنبلة ذرية ، وجيوشا وطائرات وصواريخ هي الاقوى في المنطقة، يضطر ان يسير دائريا في شوارع فلسطين، يصير صغيرا برتبة جنرال.
بالامس قال مروان البرغوثي يمكن الانتصار على جيش ما، ولكن لا يمكن الانتصار على شعب يملك دافعا اسطوريا للاستقلال ونيل الحرية، ولا يمكن لدولة تضع استثمارا هائلا لحماية المستوطنات ومنظمات الارهاب اليهودية الا ان تنزلق في الهاوية والجحيم.
اليوم يؤكد البرغوثي ان التعايش الجغرافي اصبح مستحيلا ، وان الاسرائيليين اصبحوا يبحثون ايضا عن مسارب اخرى للمرور ، ويشقون طرق جديدة هربا من دهشة الجغرافيا وحجارتها وأولادها ، الجلاد ضاق ذرعا بالسجن الذي بناه ، واصبح عاجزا عن تطبيع علاقاته مع نفسه، فالارض تمتليء بنا وتطردهم.
بالامس،حاولت ان تجدّل الزمن بحبال الغضب، وتغادر ابعد مما رسموه على خريطة الشعب، وكنت تجدف على اصوات مطر لم يهطل بعد، وكنت تموت كل لحظة فاتحا ذراعيك للمرأة التي تحبها، ما اكثر التجاعيد في وجه هذا الدرب، ما اعمق الحفر في جسد ذلك الوقت.
اليوم، يد السجن على جبينك، والحب قلبك الآخر، هل سيكون البعد شريانا للقلب؟ رام الله ليست القدس ، والمسافة كانت رئة التنبؤات والصلوات عندما داهمتك فجاءة الموت.
بالامس، حاولت ان تنقذ الذات واللغة، لا تراها اثنتان، جسم الارض واسمها، جسمها في مكان واسمها يترنح في لا مكان، صورة الارض نعش، والسماء جوفاء، اسنانها تتساقط منخورة امام الجرافات، حاولت ان تغرق بين السلام والحرب، بين المفاوضات والاعدامات، فاعتقلوك وطردوك من الكلام.
اليوم، سبعة آلاف اسير واسيرة يفيضون في السجون، حركة زلزال تحت الجدران، اظافر تنشب في وجه المستحيل، ولأول مرة يسيل ملح الغائبين رذاذا على قباب الكنيسة في اعياد الميلاد، ولأول مرة نراك هناك، تبتسم وتعانق الشهيد ابونا ابراهيم عياد... عباءة وأحدة، جسد واحد، تتعمدان بماء السماء.
[email protected]
أضف تعليق