في الفلك السياسي الإسرائيلي ليس غريبا أن نسمع تصريحا من أحد أعضاء الكنيست أو الحكومة يشن فيه هجوما أرعن على العرب الفلسطينيين في الضفة الغربية أو غزة أو القدس أو في الداخل (مناطق الـ48، داخل حدود الخط الأخضر). وليس غريبا أن تُهاجم مؤسسات عربية فلسطينية كمساواة أو عدالة وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني العاملة لتحصيل حقوق العرب الفلسطينيين في اسرائيل. وليس متسهجنا ان يقوم أي سياسي يميني طموح بالتهجم على أحد أعضاء الكنيست (البرلمان الاسرائيلي) العرب الذين يمثلون شعبنا في السلطة التشريعية.
لكن المستغرب هو أن تتعرض مؤسسة يسارية اسرائيلية مكوّنة من جنود سابقين في جيش الاحتلال لهجوم كهذا، ولكن ذلك لأول وهلة فقط. فعندما نعي أن هذه الجمعية تعمل ضد الاحتلال الاسرائيلي يصبح الأمر اعتياديا بعض الشيء.
ولا أقصد هنا الهجوم على مؤسسة بتسيلم التي تعنى بفضح جرائم الاحتلال في الضفة الغربية والقدس الشرقية والتي أحرق مقرها في القدس الأسبوع المنصرم، بل أقصد الهجوم الذي تتعرض له جمعية "نكسر الصمت" اليسارية وهي جمعية لخريجي جيش الاحتلال الإسرائيلي الذين ندموا على الجرائم التي كانوا ربما شركاء بها بحق شعبنا الفلسطيني أو شاهدين عليها أو لمجرد خدمتهم في الجيش، وباتوا اليوم يقدمون المحاضرات ويقيمون الندوات للجمهور الاسرائيلي عموما (اليهودي) وللجنود الحاليين في جيش الاحتلال، فيتحدث كل جندي سابق عن تجربته الشخصية في البزة العسكرية وعن انتهاكات حقوق الانسان بحق الشعب الفلسطيني.
إنهم ما يُعرف باسم اليسار الصهيوني، ذاك اليسار الذي لم يرَ أي مشكلة أخلاقية بأداء الخدمة في صباه بجيش الاحتلال، ولم يعتبر أن هناك شعبا كاملا يرضخ تحت براثن الاحتلال وأنه هو الاداة لهضم حقوقه وسلب ممتلكاته وانتهاك قدسية هؤلاء البشر. إنه ذات اليسار الذي يقال عنه بالعبرية "יורים ובוכים" أي بمفهوم (نطلق النار أولا وبعدها نبكي ونندم).
هناك من يدعي أن مصدر قوة هذه المنظمة هو قدرتها على استعراض شهادات عن الروتين اليومي للاحتلال أمام المجتمع الاسرائيلي، وفعلا هذا ما تقوم به، مجرد وصف وعرض، لا تعترض، لا تقف بوجه الظلم والقمع وتصرخ بوجه الظالم والمعتدي والقامع والمحتل، بل تعرض بهدوء.
في الماضي كانت هذه المنظمة تحظى بالشرعية الايديولوجية من جيش الاحتلال نفسه الذي يدعي دوما انه أكثر جيش أخلاقية في العالم، هي الشرعية ذاتها التي تُمنح للمقاتلين والمحاربين بجيش الاحتلال بحجة الدفاع عن دولتهم. يتناسى هؤلاء أنه لا شرعية للاحتلال أصلا، بالتالي لا شرعية للخدمة في جيش يطبق عمليا هذه السياسة.
المثير في القضية هو أن حتى من كان يتوهم يوما بأنه يحظى بشرعية ما في المجتمع الاسرائيلي، استفاق مؤخرا لواقع مغاير، لواقع بات هو نفسه يتعرض للهجوم من تيارات الصهيونية شتى. فحتى احزاب اليسار الصهيوني التي كانت ترعاه وبالأخص حزب العمل الذي وقّع على معاهدات أوسلو لم تنبس ببنت شفة دفاعا عن ابنها الشاطر، الذي ندم على فعلته وعلى خطاياه الكثيرة.
مشكلة هذا اليسار الصهيوني تكمن في أنه في ظل التحريض المستعر من اليمين الحاكم لا تسلم الجرة. فعندما كان الهجوم على أعضاء الكنيست العرب صمت، وعندما هاجموا كل متضامن مع الشعب الفلسطيني صمت، وعندما هاجموا اليسار العربي الفلسطيني داخل اسرائيل صمت، وفي كل مرة يتعرض فيها أحد رافضي الخدمة العسكرية الإجبارية من اليهود كان أو من الدروز (الملزمين بالخدمة العسكرية) صمت.
إنها النخبة الحاكمة البيضاء، إنها النخبة التي بدأت الاحتلال وحلمت بأن تصنع دولة على كامل الأرض الفلسطينية وزيادة، هي النخبة ذاتها التي تيّقنت في يوم من الأيام أن هذا ليس الحل، أن مصير الاحتلال الى الزوال، وحاولت دق ناقوس الخطر لبقية أفراد هذه النخبة.
فها هم يتذوقون الآن طعم الديمقراطية التي حلموا فيها والتي سعوا لبنائها وشقوا طريقهم متوّهمين أنهم بالفعل بنوا مجتمعا علمانيا لكنهم استفاقوا لواقع تتفشى فيه الفاشية بوتيرة خيالية، ومصدرها من أعلى منصب في الدولة، ومن قلب الحكومة!
[email protected]
أضف تعليق