مما لا شك فيه أن الانتفاضة الفلسطينية قد هزت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، واستطاعت رغماً عنه كشف بعض جوانب شخصيته، وفضح نفسه من الداخل، وتمكنت من معرفة طريقة تفكيره وآليه تصرفه في مواجهات الأزمات الطويلة الأمد والشديدة الأثر، ذلك أنه لا يواجه حرباً عمرها أيامٌ وتنتهي، ولا معركة تستمر لساعاتٍ وتنقضي، بل إنه يواجه انتفاضةً قد تستمر لسنواتٍ، وأحداثاً قد تتواصل حتى تحقق أهدافها، وتسقط حكومته وتغيب بعض أشخاصها، وتحيل آخرين منهم إلى التحقيق والمحاكمة بتهمٍ كثيرةٍ لها دورٌ في تردي الأوضاع ووصول الحالة في المناطق إلى ما وصلت إليه الآن.
نتنياهو رجلٌ لا يستطيع العيش في ظل أزماتٍ لا يملك زمامها، ولا يخطط لها، ولا يعرف مآلاتها، ولا يدرك خواتيمها، فهو يستطيع العيش فقط في ظل مخططاته، وتحت جناح مشاريعه التي يقوم بها، ويعرف أنها تصب في صالحه، وتخدم برامجه، ولا تتعارض مع سياسته، ومع ذلك فقد أدخل نفسه في متاهةٍ لا يعرف منتهاها، ولا يستطيع أن يميز مسار النجاة فيها.
تحمل المخابرات الإسرائيلية نتنياهو المسؤولية الكاملة عن تدهور الأوضاع في القدس والضفة الغربية، وأنه عجل في انفجارها، ولا تتردد في فضح سياساته، وبيان عيوب قراراته، ذلك أنه كان يهمل تقارير أجهزة المخابرات المختصة، التي كانت في أغلبها تحذره من اندلاعٍ وشيكٍ لانتفاضةٍ فلسطينيةٍ ثالثة، وأنها ستكون انتفاضة مغايرة لما سبقها، وأن على الحكومة التي يرأسها أن تعمل على عدم اندلاعها، أو على الأقل أن تعرقلها أو تعيقها.
لكن نتنياهو أهمل التحذيرات، وخالف توجيهات المخابرات التي أوصته بالتهدئة مع السلطة الفلسطينية، وعدم الضغط عليها أو إحراجها أكثر، خوفاً من فقدان التنسيق الأمني الذي توليه المخابرات الإسرائيلية اهتماماً كبيراً، وتعول عليه كثيراً في مواجهة العمليات وإحباطها قبل تنفيذها، وقد كتبت زهافا غلؤون، رئيسة حركة "ميريتس" الصهيونية مؤخراً "نتنياهو يريد أن يقول من خلال سياساته في الضفة الغربية أن التحقير فقط ينتظر المعتدلين من الفلسطينيين، لذا فهو لا يتردد في أن يبصق على عباس في كل فرصة ممكنة".
يرى الأمنيون الإسرائيليون أن نتنياهو أطاع نفسه واتبع هواه، ولبى سياسات حلفائه في الائتلاف الحكومي، ليكسب المزيد من تأييد المستوطنين والأحزاب الدينية المتشددة، وكان من أخطرها موافقته على سياسة تغيير الوضع الحالي لمدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، والسماح للمتطرفين باقتحام الحرم، وكتب شاؤول أرئيلي وهو ضابط متقاعد "نتنياهو جعل من عباس أضحوكة في نظر أبناء شعبه، فبدلاً من أن يكافئه على ضبط الأوضاع الأمنية في الضفة في ذروة الحرب على غزة وفي ظل تواصل الاستيطان، فأنه يعاقبه بمصادرة أراضي الضفة واقتحام مسجد الصخرة".
لهذا فإن المخابرات الإسرائيلية تصفه بأنه مهزوز ومتردد، وأن يده مرتعشة مع أطراف ائتلافه والأحزاب اليمينية المتشددة، فهو يخافها ويخشى غضبها، ويحرص عليها ويلبي رغباتها، لا إيماناً منه بصوابية سياساتها، ولكن حرصاً منه على عدم فقدان منصبه وضياع كرسيه، وقد حذرته مخابراته كثيراً من خطورة وسلبية موافقته على استخدام المستوطنين للأسلحة النارية في مواجهة الانتفاضة، فهو بقراره قد سمح لهم بتنفيذ القانون الذي يرون بطريقتهم ووفق هواهم، وبذلك يكون قد أدخل البلاد في فوضى عارمة، ووسع من دائرة العنف، وزاد من وقودها الذي سيضاعف من أوراها، وسيزيد من لهيبها، بما يجعل سيطرته عليها بعد ذلك مستحيلة.
نتنياهو في تقييم المخابرات الإسرائيلية شخصٌ لا يقوى على ضبط نفسه، ولا على حسن إدارة حكومته، وتسيير عملها وتنظيم أدائها والتنسيق بين أعضائها، في ظل فوضى قد تسقطه، وقد تنهي حلمه الذي يكبر يوماً بعد آخر في أن يكون ملك بني إسرائيل الجديد، وطالوتهم المنتظر، المخلص والمنقذ، والغالب المنتصر، لأن الفوضى التي تسبب فيها لن ترهب الفلسطينيين، ولن تمنعهم من مواصلة انتفاضتهم، بل ستخلق فيهم روح التحدي والثأر والانتقام، ولن يكون من السهل عليه إقناع المجتمع الدولي وتبرير سلوك مواطنيه تجاه الفلسطينيين، وهو سلوكٌ آخذٌ في التطرف والاتساع.
وقد ذكر الصحافي الصهيوني رفيف دروكر أن هجمة السكاكين الفلسطينية "أبرزت أسوأ صفتين في نتنياهو: الجبن والكذب"، فهو يعلم أنه قد وقع في شراك سياساته، وفي فخ أعماله، وأن مساعديه الأمنيين والعسكريين قد غرروا به ولم يصدقوا نصحه، ولهذا فهو يحاول الإفلات من مأزقه والخروج من أزمته بممارسة فن الكذب الذي عرف عنه، فهو في محيطه وبين أقرانه القدامى كان معروفاً بالكذب، ومشهوراً بالنعومة المخادعة التي يتطلع من خلالها إلى تحقيق أغراضه والوصول إلى أهدافه.
وتأكيداً على ذلك تروي داليا شيندلن الكاتبة في صحيفة الأوبزيرفر، حكاية مفادها أن مستشاراً سياسياً لنتنياهو كان يتناول الغداء معه، فطلب نتنياهو شطيرة "برغر"، وهو محظور عليه بأمر الطبيب،
وبعد أن أكل نتنياهو جزءا كبيراً من الشطيرة، دخلت زوجته وبدأت بتقريعه، ورغم أنها في صحنه أمامه، ويبدو أنه أكل منها، غير أن نتنياهو دافع عن نفسه باللجوء إلى الكذب زاعماً أنه لم يأكل "برغر" أبداً.
وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيفني ليفني قد وجهت انتقاداتٍ قاسية إلى سياسة بنيامين نتنياهو وشخصه، وحملته المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في البلاد، واتهمته بالغرور والتسلط، ودعته إلى مراجعة سياسته في التعامل مع الفلسطينيين لضمان وقف انتفاضة السكاكين، ونصحته بالتخلي عن مصالحه الشخصية وأحلامه الأنانية، والتراجع عن أسلوب القوة لمواجهة الأزمة، والعمل بدلاً من اعتماد القوة على وقف الاستيطان وإعلان الالتزام بحل الدولتين، وقالت "إن سياسة الحكومة تتسبب في عزلتنا في العالم وتخلق انعدام أملٍ ويأساً".
أما الإدارة الأمريكية وعلى رأسها الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري فهم يعرفون أن نتنياهو يكذب ويدعي، ويحاول دوماً تبرير أفعاله بالمزيد من الكذب، وتعزيز روايته باختلاق الجديد من القصص والحكايات، وتلفيق الروايات والأحداث، وكلاهما قد عانى منه في ظل الأزمات العديدة التي افتعلها لهما في مجلسي الكونجرس والشيوخ، اللذين استخدمهما في تمرير المزيد من الكذب الذي يدين أوباما ويضعف قراراته، فضلاً عن هروبه من أزماته بالتهكم على الإدارة الأمريكية والاستخفاف بها.
أمام الهجمة التي يتعرض لها نتنياهو، قام مستشاروه بنصيحته بضرورة الاجتماع مع قادة المعارضة، وإطلاعهم على تطورات الأوضاع، واشاركهم في الأزمة التي تمر فيها البلاد، والتأكيد عليهم أنها أزمة وجودية تستهدف الوجود اليهودي في البلاد، الأمر الذي يفرض على الجميع نسيان مشاكلهم، والتوقف عن توجيه النقد للأداء الحكومي، والتفرغ للتعاضد معاً والتعاون للخروج من الأزمة بسلامٍ أو بأقل الخسائر، لكن أوساطاً إسرائيلية تفسر هذا السلوك الذي يحاول نتنياهو اتباعه الآن، بأنه دالٌ على ضعفه، واعترافٌ كاملٌ بفشله، وإن بدا في سلوكه حكيماً، وفي قراره وطنياً.
يبدو أن الانتفاضة الفلسطينية لن تكتفي بفضح نتنياهو وحكومته، التي قد تسقطها وتسقطه، بل ستفضح أطرافاً كثيرةً، ودولاً عدة، وستعري أنظمة، وستكشف حقيقة تآمر دولٍ وحكومات على القضية الفلسطينية، ممن يدعون نصرتنا والوقوف معنا، وستعري حقيقة البعض وإن انتمى إلى فلسطين عروبةً أو إسلاماً، أو كان إليها ينتسب سكناً وإقامة، وهويةً وجنسية.
[email protected]
أضف تعليق