أعتدنا أن نبدأَ... لكّن في الحقيقة أنّ البدء بالفعل والسيرورة يحتملُ دلالاتٍ متاحة في تفاسير البدء.

فالبداية في منتصفِ الطريقِ ليست محتومًة على لحظةِ الصفر وما بعدها، إنها بدايٌة غير اعتياديٍة وتحملُ معنى الاستمرارِ، والاستمرارُ يحملُ معنى التجربة.

لا بدايةٌ تبدأ ولا نهايةٌ تنتهي، ولا بدايةُ نهايةٍ ولا نهايةُ بداية. المسألةُ أبسطُ من ذلك بكثيرٍ.

هذه البدايةُ المختلفةُ تحتملُ الوقوف اللحظي أو الممتدِـ

التوقفُ لاستراحة المللِ واستراحةُ المحاربِ معاً تحت ظلِ الزمنِ.

البدايةُ في منتصف الطريقِ اختياريًا كان أو قسريًا تعني التوقف المرهون بملء الرئتينِ من أوكسجين الحياة، ثاني أُكسيده النظرُ إلى الخلف مع التَفكّرِ بما سيأتي. فالطريقُ لن تكونَ كما كان سابقُ الخطوات فيها، لا ولن يكون ايقاع المُضي والمشي فيها بنفسِ الوتيرة.

إنها التوقف الذي يحيلُ إلى إعادة النظر في الطريق وفي المُضي قدماً.

البداية في منتصف الطريقِ لا تعني بالضرورة توقف الأشياءِ توقفاً مُطلقاً ولا استمرار الأشياءِ استمراراً مطلقاً، إنها حالةٌ تتوسطُ الحالتين، تجمعُ ما بين المطلقين ليأتي بحالةٍ وحلةٍ جديدة لا تسطو عليها الرتابة ولا يوشحها الملل.

وإن كانت النفسُ البشرية تتوسمُ في البدءِ الحداثة والتجدد والانطلاق وهذا ما تميلُ إليه النفوس وتتوقُ اليه الجوارح وتصبو إليه الأفئدة. لكنَ الاحتمالَ أيضًا أن تكون البداية في المنتصف بعد أن عانت النفس إرثًا محملاً بموازين ثقيلة مرهقة تنوءُ بها بالنفس للانزواء أو الانحراف عن سكّة الأيام.

إن كل تجربة ترفرف بجناحين خفاقين من قوتين متضاربتين متعاكستين ذلك ليستوي ويتوازن هيكل التجربة فلا تسقط من عُليها فتذوي وتدوّي. التجربة هي من تمنحُ العقلَ رجاحة الاتزانِ لنستطيعَ الاستمرار بالتحليقِ. التجربةُ هي العينُ التي تُبصرُ الطريق بكلا المفهومين، الطريقُ التي بدأنا منها والطريق التي نريدُ الاستمرار بها.

البداياتُ تتقاطعُ، تتشابكُ، تمشي، تتوازى، تتشابكُ وتنفصلُ أحيانًا، لكنها تحافظ على العامود الفقري للاستمرار في هذا الوجود.

لكل منا بداية، ولكل منا طريق ولكل طريق بداية تتوقف وأخرى تستمر. بدايةٌ لنا كأفرادٍ وبدايةٌ لنا كجماعة، فنحن محكومون إلى بداياتٍ تتوسط تاريخنا كأمٍّة حين تعقدُ صفقةً مع التاريخ فيتوقفُ كنارُ الأيام عن الشجنِ أو تعقد عقدةً في حبلِ الأيام فينقطعُ. فبداياتنا التاريخية تخضعُ لقوىً أكبر من قدرتنا على إيقافها ذلك لأننا مُعرّفون على أننا مجتمع هيكله الفكر الجماعي وفي داخل هذه المنظومة ننمو كأفرادٍ ونكوّن بداياتٍ ناشزة عن تغريدها الرتيب.

وحتى حينما نريد الاستمرار بعد أي توقفٍ مُتسعٍ في المدى فنحن لسنا اللذين بدأنا كما كنا، لأن التوقف أو التعطل بإرادتنا أو بما يفوق إرادتنا أكسبنا حُلة التفّكر والتعمّق وأصبحنا أناساً آخرين نلبسُ ثوب الجديد من الأيامِ زينتها التجربة والنضوج.

وها نحن نستعد لفصلٍ آخر في الحياة وفصل آخر في السنة التعليمية، حيثُ توقفنا للعطلة، وسنبدأ مع بداية سنة جديدة في التقويم التاريخي بينما هي سنةٌ دراسية مستمرة في التقويم المدرسي الذي بدأ قبل نحو أربعة أشهر مضت. وهذا يتزامنُ مع بدايةٍ من جهةٍ واستمرارية من جهةٍ أخرى، ولا نزال بنفس المسار.

ويخفقُ القلبُ لهذه البداية المنتصفية وكأنها بداية البدايات، فالبدايةُ في منتصف الطريق تَحملُ مذاقَ الفرح والسرور وصوت القلبُ استعداداً للاستمرار.

البداية المنتصفية أجمل البدايات ذلك أنها أقل البدايات توتراً وأكثرها استعداداًـ إنها بداية حقيقة لها ملمسُ الخلودِ ومذاقُ الواقع، لا توجس يرافقها ولا خوفٌ يفسخها ولا جاذبيةٌ نحو الانتهاء تشدها، إنها بداية لوزية ربيعية متفتحة، قد تُحجِّم بها التوقع ويمشي الماءُ في مسارها رقراقاً بلورياً. أنها البداية التي تزينُ صدر الأيام ويلمعُ الجوهر بها براقًا في أشعة الفرح. أنها البداية التي تملأ راحة الكف عبيراً وشذى.

أتمنى للجميع بداية فصل رائعة غزيرة وافرة مزاجها شتاءٌ ومذاقها دفء يتفتحُ من بعدها ربيعٌ مزهرٌ ملونٌ. بدايةٌ مستمرةٌ لزمانٍ لا يشيبُ ولا يتوانى عن الاستمرار وهو يحملُ البدايات كلها ويستمر... وكل بدايةٍ وكل طريقٍ وأنتم بخير.
(باقة الغربية)

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]