شهدت الساحة الإسرائيلية في الأسابيع الماضية واحدة من أبرز المعارك الشرسة المكشوفة، والتي سيكون لنهايتها، برأيي، تأثير مصيري على وجه نظام الحكم في إسرائيل. فالهجوم السافر والشرس الذي جاهرت به قوى اليمين على جهاز المخابرات العام وانفلات بعض فئات المستعمرين ووصفهم غير المسبوق، للوحدة الخاصة بمتابعة المواطنين اليهود في الشاباك، بأنها وحدة إرهابية، يدلل بشكل لا يقبل التشكيك أو التأويل، أن تلك القوى اليمينية، ماضية في حملاتها ألتي بدأتها قبل سنوات في مسعى منها لفتح أكثر ما يمكن من المواقع واحتلال ما يمكن احتلاله من الوظائف التنفيذية في خطة تستهدف الى الاستطيان في جميع منظومات الحكم وعلى مستوى السلطات الأربع في الدوله : الكنيست، والحكومه - جميع وزاراتها وما يتفرع عنها، لا سيما الوزارات الأمنية والقضائية والمالية- والجهاز القضائي، المدني والعسكري، والصحافة .
من المؤسف أن تدور رحى هذه المعركة وقيادات الجماهير العربية مُعرضة عن تداعياتها، مما يتركنا في مشهد يوعز بواحد من احتمالين : بعض العرب يعتقدون، خفية أو جهارة، أن هذه الحرب هي واحدة من حروب اليهود التي يجب أن لا تعنينا، فنحن،عرب هذه البلاد، سنكون، حتمًا،الرابحين، من نهايتها، ولذلك دعوهم "كالبطيخ يكسر بعضه". إنهم واهمون وخاطئون.
أمّا الفئة الثانية، فمن الواضح أنها لم تجر تقييمًا صحيحًا لمعاني تلك التداعيات وتأثيرها الممكن علينا واسقاطاتها المحتملة في المستقبل على مصالح الجماهير العربية في إسرائيل، أو حتى على كيفية بقاء هذه الجماهير في دولة قد يتمم فيها ذاك اليمين غزواته وآخرها كما يبدو لنا في هذه الأيام، على معاقل جهاز الشاباك، وهو مكلل بالظفر والنصر وتحت أقدامه حكم ومواطنين !
قد يكون هذا الاعراض بتأثير علاقة تاريخية، بين جهاز الشاباك والجماهير العربية، وتجربة طويلة حفرت على جباه الكثيرين بحبر من دم وحروف من ملح وعرق. فهنالك حالة من الارتداع الأوتوماتيكي، المبرر إلى حد بعيد، لعدم الخوض في هذه المسألة وعدم اخضاعها إلى تساؤل فيما اذا استجدّت دواع ومعطيات، توجب، برسم مصلحة الجماهير ومن أجل سلامتها، وضعها تحت مجهر التقييم، وفحص امكانيات تغييرها، على الرغم من نبض الذاكرة الدامية والمتخثرة.
وقبل أن أطور هذه الفكرة أوكد أننا لن نختلف حول كيف يجب أن نعرف علاقتنا بجهاز الأمن العام الإسرائيلي، خاصة إذا مسحنا تاريخ تلك العلاقة، على المستويين الجمعي والفردي، فلن نجد إلا جهازًا تصرف منذ إقامة الدولة وفقًا لفرضية عمل موجّهة أساسية وخطيرة، أفادت وتفيد، باختصار: أن الجماهير العربية في إسرائيل تشكل خطرًا استرتيجيًا على مستقبل دولة إسرائيل. ومن هنا كانت الطريق الى الملاحقة والقمع والقهر والاضطهاد قصيرة.
فمن يتابع بشكل عام مفاصل هذه العلاقة، يتبدى له ان المفاهيم التي سادت منذ البدايات، ما زالت قائمةً بتفاصيلها وحذافيرها تمامًا كما كانت في سنوات الخمسين والستين وما تبع .أي أن الفرضية المؤسسة في عمل جهاز الشاباك، ما زالت هي الفرضية المهيمنة والمتحكمة ، وقد يعزز البعض موقفه، بما صرحه يوفال ديسكن، مهددًا العرب حينما كان رئيسًا للجهاز في العام ٢٠٠٧.
ربما هذه هي الحقيقة الوحيدة، مع أنني استشعر أن واقعًا جديدًا بات يخيم في فضاء الدولة، ومن الصعب، في مقالة اسبوعية، تغطية ما طرأ من تغييرات داخل المجتمع الإسرائيلي في عقد من الزمن، ومن العسير احصاء ما جرى من تحولات داخل المجتمع العربي في إسرائيل وقواه الاجتماعية والسياسية، لكننا نشاهد ما يجري في معظم الدول العربية وبعضها أصبح أشلاء تأكل أشلاء، ونشاهد كذلك من يقترب من مقاود السلطة الإسرائيلية، ولتقييم نتائج هذه التطورات، لسنا بحاجة إلى فقهاء في السياسة ولا إلى قادة نبغاء في أصول الحكم، فنحن، كبشر بسطاء، بكفينا ما نسمعه من طرطقة الأواني المهشمة وخبطات بساطير جيوش هولاكو الجديد الزاحفة من جبال يهودا والسامرة، برماح من كراهية وشر، والمدججة بما أوصى به "يوشع" ويسيرون غزاةً في الدجى وعهدهم بناء مجد مملكة خلقتها الأساطير الغابرة، أمام أعين عالم عاهر ونظام دولي فاسد.
على هذه الخلفية والواقع، التقيت مؤخرًا في لقاء " للعصف الفكري" الذي بادر إليه أحد مراكز البحث العلمي وعشرات الأكاديميين اليهود والعرب وبعض الشخصيات الاعتبارية. عبر كل المشاركين عن آرائهم وأستعرضوا تشخيصاتهم حول مخاطر الوضع السياسي الحالي في إسرائيل، خاصة بعد قرار الحكومة الإسرائيلية باخراج الحركة الاسلامية الشمالية إلى خارج القانون، وبعضهم وضع توقعاته إزاء ما كان همّ الجلسة وسؤالها المركزي: إلى أين تتجه الدولة؟ وما يتوجب فعله في هذا الواقع المقلق؟
كانت، بطبيعة الحال، معظم الخلاصات قاتمة، فالحضور أجمع أننا نواجه في إسرائيل نظامًا يزداد تغوّلًا من يوم إلى يوم، الغلبة فيه لمجموعات يمينية فاشية تقود بامعان وقح وبمنهجية مستنيبة حملات انقضاضها على جميع مرافق الحكم في الدولة، غير مكترثة حتى لو كانت النهاية تودي الى تلك الهوة السحيقة المحفورة في بطن التاريخ تذكارًا لأقوام انتشت على روائح ما تسفكه من دم وسكرت من بخائر أطفال تفحمت أجسادها على مذابح العربدة والبطش.
أجاد المتحدثون، كل في مجاله، بتوصيف ما يحيطنا من مخاطر وآفات، بيد أن معظمهم عدموا الحيلة والوسيلة في توصيف الدواء والعلاجات. بل كان واضحًا أن هناك حالة من الاحباط أو حتى العجز في حين أكد البعض اننا نقترب إلى نفاد فسحات الأمل .
من بين المتحدثين لفتت نظر الموجودين مداخلة أحد الاكاديميين الاعلاميين المتخصصين في مجال علاقة الدولة بمواطنيها العرب. حين استعرض موقفًا يفيد، معززًا بالمعطيات، أن جهاز المخابرات العام الاسرائيلي أصبح، بشكل قد يستدعي الاستهجان، أو ربما القلق! أحد الصمامات الأخيرة الذي يمنع استكمال انهيار منظومة الحكم وسقوطها النهائي بشكل سيمس حقوق المواطنين العرب وهوامش تواجدهم في الدولة، وأوضح أن معارضة الشاباك، للأسباب التي أوردها قادته، لاخراج الحركة الاسلامية ليس المؤشر الوحيد لما استعرضه، لكنه أصر أن من يقوم بالتحقيق والتعمق بما يجري من أحداث وتحولات خطيرة سيجد أن الشاباك، حاول ويحاول منع وقوع عدة ضربات نوى اليمين تنفيذها، خاصة بعد أن نجحت قواه المتطرفة من اختراق معظم المواقع السيادية والإدارية والتنفيذية، أو حققت اقترابًا منها، ولذلك تقوم اليوم طلائعهم بهجومها الشرس على الشاباك وهي مدعومة بالعديد من السياسين في محاولة لاخافة قادته أو تدجينهم وردعهم، قبل دك معاقلهم واسقاطها.
قد يكون ما قاله هذا المشارك صائبًا وقد لا يكون، وقد يكون الشاباك الذي كان هو الشاباك الذي سيكون، لكنني أنظر وأرى حولنا النار تلتهم كل ما ومن يعترض طريقها ونحن العرب كنا وسنكون أول من سيحترق، لكننا نشهد أيضًا أن هنالك من يحاول أن يشعل النار في حضن المؤسسة الأولى الموكلة لها مهمة حماية أمن الدولة الداخلي ، هذه الدولة التي تسعى تلك الجهات اليهودية المتطرفة،بشكل لم يعد مخفيًا، الى تحطيمها، كي تقيم مكانها مملكة اليهود الكبرى، كما جاء في بيان اضطرت قيادة الشاباك إلى نشره في معرض دفاعها عن مواقفها وصد هجمات اليمين عليها، بعد اعتقال بعض من متهمي جريمة دوما .
انها مرحلة تستوجب منا نحن العرب التوقف واعادة النظر في كثير من المسلمات والمحرمات، فلا يعقل أن تهب هذه العواصف النارية بيننا ولا يلتفت أحد إليها، وجل ما تحظى به كان مجرد نتف من أخبار خجولة وافتتاحية متواضعة في جريدة الاتحاد الحيفاوية رددت من خلالها موقفًا تقليديًا وأكدت فيه " لا للتعذيب ، لا للاستيطان"، وهو موقف وإن كان سليمًا، إلا أنه يبقى بمثابة تسطيحًا سهلًا لقضية معقدة .
قد نكون بحاجة إلى وجبة من الجرأة والمبادرة أو إلى قليل من الصحوة، لتقوم قيادتنا وبعض النخب المعنية بفحص وتقييم ما يجري بيننا و"بينهم" وما طرأ على علاقتنا مع الدولة، والتحقق بشكل مسؤول ومباشر، من هل فعلًا ما كان هو ماسيكون، وهل مثلًا ، ما زال المواطنون العرب هم هاجس الشاباك الأول والوحيد وعدو الدولة الاخطر والأكيد؟ حتى وإن كنا مقتنعين بأن الجواب على ذلك هو نعم، فلا يعقل أن نظل نقطع نهارتنا بالتمني ونتوسد ذراع الهم في الأماسي.. إنها مجرد فكرة ..
[email protected]
أضف تعليق