جزء هام من النقاش حول ظاهرة "الإرهاب" هو فهم مواقف كل من الولايات المتحدة وحليفتها المركزية أوروبا من هذه الظاهرة وطرق التعامل معها. المؤكد أن طبيعة العلاقات بين القارتين تحدد ليس فقط مستقبل تعاطي العالم مع هذه الظاهرة بل أيضاً الكثير من نسيج العلاقات الدولية وطبيعة التفاعل في المؤسسات الدولية.
ولن يستقيم أي نقاش حول أي ظاهرة من ظواهر العلاقات الدولية، ولا أي قضية فيه دون فهم الاتفاق والاختلاف بين واشنطن وعواصم أوروبا الكبرى حيال تلك الظاهرة أو القضية، فرغم كل شيء فإن هذه العلاقة تكشف عن تداخل وتوزيع أدوار بما وفي حالات قليلة صراع خفي على المصالح، يحلل الكثير من الأحاجي.
شكلت تفجيرات باريس صفعة حادة لأوروبا التي اكتشفت نفس الاكتشاف للمرة المليون، دون أن تتعلم، بأن أزمات الشرق الأوسط تنتقل بسرعة إليها، وأن ما تقوم به أميركا وتمارسه من سياسات تدفع أوروبا ثمنه. على مدار العقود السابقة كانت المدن الأوروبية ساحة خلفية لأزمات الشرق الأوسط، وكان على أوروبا أن تشارك بطريقة أو بأخرى في مسرح الأحداث.
تفجيرات باريس هذه المرة كانت صادمة لأوروبا، التي باتت كل عاصمة فيها تنتظر التفجير القادم في شوارعها، وأوروبا التي لم تكن يوماً بعيدة عن الشرق الأوسط، تجد نفسها دائماً في قبل الأحداث هناك، ففيها القوى الاستعمارية الأساسية التي احتلت الشرق الأوسط والعالم أجمع في زمن الاستعمار القديم، كما أنها ترتبط بعلاقات تجارية قوية مع الكثير من أقطاره، إلى جانب القرب الجغرافي والعلاقات التاريخية.
والحقيقة أن أحد أهم أسباب الانزياح في الموقف الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية وافتراق بروكسل عن واشنطن في الكثير من المواقف المتعلقة بالقضية الفلسطينية يعود إلى أن الصراع الذي قام بعد إنشاء دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني وجد الكثير من تمظهراته في المدن الأوروبية سواء من خلال الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل بحث قيادة الثورة الفلسطينية أو من خلال العمليات الفدائية التي وجهت نحو أهداف إسرائيلية في مدن أوروبية، إلى جانب، بالطبع، أزمة النفط عام 1973 وما تلاها من دبلوماسية مواجهة من قبل الفلسطينيين أثرت على الرأي العام وصناع القرار في العواصم الأوروبية.
ليس الحال أن واشنطن لديها مناعة ضد هذا التغير في المواقف، ولكن لأن طبيعة الثقافة السياسية الأميركية التي تبّجل الاستيطان وتجده جزءاً من تاريخها السياسي المقدس الذي أوجد الأمة الأميركية وحقق الحلم الأميركي بجانب حقيقة أن واشنطن بعيدة بعداً كاملاً عن مركز الصراع وبؤر تفجره، وكل هذا يجعل واشنطن بمنأى عن رياح الشرق الأوسط العاتية.
وربما الأمر مرتبط بذلك بهذا الشقاق الأميركي الأوروبي حول التعامل مع الإرهاب، وسبق لرورت كيجان عالم السياسة الأميركية الشهير، والذي كان جون كيري قد اقترحه في حال فاز في انتخابات الرئاسة، مسؤولاً للأمن القومي، أن قال في مؤلف شهير له: إن واشنطن تنتمي إلى كوكب المريخ وأوروبا تنتمي إلى كوكب الزهرة. والمريخ في الأسطورة اليونانية "مارس" هو إله الحرب، فيما الزهرة هي إلهة الجمال.
أميركيا خشنة تقاتل بشراسة من أجل الحضارة الغربية، فيما أوروبا ناعمة. ما قصده كيجان في أطروحته هو أن تكتفي أوروبا في أن تقدم للعالم قوتها الناعمة بكلمات جوزيف ناي، صاحب الفكرة، من ثقافة وفنون وتترك شؤون إدارة الكوكب لواشنطن، وضمن قوة أوروبا الناعمة بالطبع قوتها الاقتصادية حيث على بروكسل أن تساهم في دفع تكاليف إدارة شؤون الكوكب. إنه التقسيم الذي طالما أغضب بروكسل التي لا تريد أن تنظف الصحون في حفلة تنظمها واشنطن. واشنطن تقوم بكل شيء فيما على أوروبا أن تدفع التكاليف.
هذا ما حصل في عملية الشرق الأوسط حيث كانت واشنطن هي الراعية السياسية صاحبة الكلمة الطولى في المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وظلت بروكسل تدفع المال حفاظاً على السلام. وفي مناطق كثيرة من العالم حتى داخل أوروبا نفسها خلال العمليات ضد ميلسوفيتش في يوغسلافيا السابقة فإن واشنطن هي من يقود التحالف العسكري للتخلص من "الأشرار"، وتكون القوة الأوروبية مساندة، أو هي موجودة من أجل أن تعطي شرعية جماعية للهجمات الأميركية، وبكلمة أخرى إنها حروب أميركية لكن بصيغة جماعية.
الآن وبعد أن باتت أوروبا تدفع بشكل مباشر من أمنها واستقرارها فواتير التهور الأميركي في العالم، يبقى الخيار الذي لم يغلق أبداً وهو أن تتصرف أوروبا بعيداً عن التأثير الأمريكي وتحاول أن تمسك بمستقبلها بعيداً عن التبعية التي نجحت واشنطن في خلقها كمصير لأوروبا منذ أن خمدت مدافع الحرب العالمية الثانية وحررت الدبابات الأميركية العواصم الأوروبية من النازية والفاشية. العامل الخارجي الهام الذي كان دائماً يجلس على طرف القارة هو الدب الروسي الذي شكل الخوف منه خلال الحرب الباردة أساس التعاقد في حلف الناتو الذي كان عليه بعد انهيار جدار برلين أن يغير من مهامه في قمة أنقرة الشهيرة ويستبدلها بمهام أوسع.
الآن وفي ظل الأزمة التي يشكلها تنظيم الدولة ودخول روسيا طرفاً للدفاع عن الحليف الأخير في المنطقة، سورية، واستهداف تنظيم الدولة لقلب أوروبا الناعمة باريس وتهديده لعواصم أخرى، تبدو أوروبا على مفترق طرق عليها فيه أن تختار إما أن تتجه صوب حماية نفسها والعمل وفق مصالحها أو الاستمرار في الالتفات أكثر إلى التوجيهات الأميركية.
المؤكد أن الدب الروسي لم يعد يجلس أعلى التلة يراقب أوروبا تتصرف وفق أهوائها تنظر فقط صوب الأطلسي حيث الحليف التاريخي لها، بل بات قادراً على أن يشكل تحدياً للهيمنة الأمريكية على القارة العجوز وجوارها، وأوروبا خلال سعيها للبحث عن دور لها في عالم الغد لا بد لها من أن تستمع للإشارات القادمة من جهات أخرى، وتلتفت أكثر إلى مكانتها المتآكلة في السياسة الدولية.
[email protected]
أضف تعليق