يبدو أن وزير الخارجية الأميركية جون كيري، كان قد تلقى تأكيدات من المسؤولين الإسرائيليين بأن لدى جيش الاحتلال أسلحة وأجهزة دقيقة تحول دون وقوع عدد متزايد من المدنيين الفلسطينيين أثناء الحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة أواسط العام الماضي، ويبدو أيضاً أن هذه التأكيدات جاءت إثر انتقادات دولية، وأميركية على وجه الخصوص نتيجة لسقوط أعداد متزايدة من المدنيين الفلسطينيين إبان تلك الحرب، وهذا ما يفسر ما تم اعتباره انتقاداً أميركياً، وسخرية جون كيري عندما قال «يا لها من عملية دقيقة» دون أن يعلم أن ميكروفون «فوكس نيوز» كان مفتوحاً قبل إجراء مقابلة معه، حدث هذا الانتقاد وهذه السخرية سهواً.. في ذلك الوقت.
ومع اقتراب نهاية ولاية إدارة أوباما الثانية، يندفع جون كيري ليعبر عن مخزون صدره الحقيقي تجاه إسرائيل التي تتحمل من دون شك فشله في إنجاز كان يشكل طموحه السياسي من خلال العملية التفاوضية على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي. قبل أيام، انتقد كيري السياسة الإسرائيلية وهو يتحدث أمام معهد بروكنغز، واليوم، يعيد انتقاده ولكن بشكل أوسع لدى إجابته على أسئلة مجلة «نيويوركر» الأميركية، مكرراً ما سبق وأن أشار إليه في معهد بروكنغز حول الدولة ثنائية القومية واحتمالات متزايدة لانهيار السلطة الوطنية الفلسطينية والاستيطان باعتباره عقبة أمام السلام، إلاّ أنه أضاف في شرح موقف العديد من النقاط الهامة التي يعتبرها مبرراً لتناول هذا الانتقاد للسياسة الإسرائيلية، فأشار إلى أن دولة ثنائية القومية، ستشكل صعوبة أمام حكومة إسرائيل لتمارس «يهوديتها» في ظل عدد متزايد من السكان «المواطنين» العرب، أما عن الاستيطان فقد توسع قليلاً، عندما استهجن مواصلة الاحتلال التوسع الاستيطاني، والأهم من ذلك هدم منازل العرب التي تقول إسرائيل إنها تسعى للتوصل إلى تسوية معهم، خاصة إذا ما فشل حل الدولتين واضطرت إسرائيل إلى أن تشهد دولة ثنائية القومية، الأمر الذي يعني تهديداً مباشراً، ليهوديتها وديمقراطيتها(!).
وسبق أن أشرنا في مقال سابق إلى رد الفعل الإسرائيلي على انتقاد كيري أثناء كلمته في معهد بروكنغز، وهو ما تكرر اليوم، بشكل أكثر وقاحة في الرد على كيري إثر نشر مقابلة مع «نيويوركر»، ولا يبدو أن كيري بات يكترث لردود الفعل الإسرائيلية، ليس فقط لأنها متوقعة ومعهودة، ولكن لأنه سبق أن تلقى مع رئيسه، العديد من الإهانات الوقحة من قبل المسؤولين السياسيين والأمنيين في إسرائيل، والتي يتم استيعابها واستهلاكها كأن شيئاً لم يكن، تلقي الإهانات الإسرائيلية من قبل إدارة أوباما بات أمراً عادياً وسلوكاً غير مستغرب وحتى أنه بالكاد يتم إدانته والرد عليه، وعلى الرغم أن كافة الإدارات الأميركية، الديمقراطية منها والجمهورية، قد تلقت العديد من الصفعات والإهانات، إلاّ أن إدارة أوباما، ليست فقط أكثر من تلقى تلك الصفعات، بل أقلها رداً عليها، وأكثرها تحملاً واستيعاباً لها، ومع أن هذه الإدارة قد باتت على مقربة من مغادرتها البيت الأبيض، وهو ما كان يجب أن يشجع على الرد بقوة على الصفاقة الإسرائيلية، إلاّ أنها، حتى مع هذا الوضع، لم تفعل ذلك.
المشكلة في تصريحات كيري، أنها هامة وصحيحة إلى أبعاد عديدة، لكن وبكل أسف، لا يمكن البناء عليها، قد تشكل أسطراً في تاريخ الجهود الأميركية لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لكنها لن تؤثر على حقيقة أن لا حل لهذا الصراع في ضوء السياسات الإسرائيلية التي لا تعترف ليس فقط بحقوق الآخر الفلسطيني، بل بوجود هذا الآخر، من قبل عدة أحزاب يمينية متطرفة تشارك في حكومة نتنياهو.
ومشكلة هذه التصريحات، أنها متأخرة كثيراً، وفي هذه الحال، فإن في التأني الندامة، وهو ما نعتقد انه صلب وجوهر ومبرر هذه التصريحات، فهي تشير بشكل غير مباشر، إلى أن كيري تردد كثيراً، وتأخر أكثر، قبل أن يتفوه ببعض الحقائق المتعلقة بالمفاوضات، وبفرض أنه لو أشار بهذه التصريحات في أوج العملية التفاوضية لكانت الصورة على الأغلب ستكون مختلفة، وربما تأثر الجمهور الإسرائيلي، وبعض القوى والأحزاب بهذه التصريحات، واختلفت نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة، وربما لوصلت بعض الأحزاب الأقل يمينية وتطرفاً، مما هو عليه الحال اليوم في حكومة نتنياهو الحالية، وربما لفتحت آفاق أوسع ـ نسبياً ـ لاستمرار عملية تفاوضية أقرب إلى النجاح منه إلى الفشل. يقول جون كيري في مقابلة مع «نيويوركر» إنه سيواصل مساعيه لاستعادة العملية التفاوضية على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وكأنه بهذا القول يتناقض عملياً مع تصريحاته حول الملفات المعقدة نتيجة للسياسة الإسرائيلية التي انتقدها، ما يشير إلى تناقض وتخبط، وربما رد فعل على فشل ما كان منه بد!! عندما تسلم جون كيري حقيبة الخارجية كان أكثر طموحاً وقدرة على أن يؤثر تأثيراً جيداً على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وأعتقد انه كان يمتلك المقومات التي تجعله اقرب إلى النجاح، إلاّ أنه آثر على أن يتوازى ليس مع سياسة رئيسه ـ وهذا أمر طبيعي ـ ولكن كيري آثر أن يراهن على أن الاقتراب من إسرائيل أكثر، والتماهي مع سياساتها ربما يجعله أكثر قدرة على التأثير على قراراتها، والآن بعدما فشل هذا الرهان تماماً، ها هو جون كيري، يحصد الخيبة، وبات مضطراً إلى مراجعة لن تفيده ولن تغفر له تأنيه وتردده، وتأخره كثيراً! -
[email protected]
أضف تعليق