غداة زيارة جون كيري الفاشلة جرّاء رفض نتنياهو إعطاء الفلسطينيين أي شيء قبل وقف «الانتفاضة» كليًا، لأن إعطاءهم أي شيء في ظل استمرارها مكافأة للإرهاب؛ اجتمعت الحكومة الإسرائيلية على مدار ساعات طويلة خلال اجتماعين عقدا في يومين متتاليين للبحث في «سيناريو انهيار السلطة»، حيث انقسمت الآراء بين الوزراء بين: فريق، من ضمنه نتنياهو وجيش الاحتلال وأجهزة الأمن، اعتبر أن انهيار السلطة خيار سيئ لإسرائيل، وفريق يرى بأن انهيارها يخدم إسرائيل.

سبب البحث في «سيناريو انهيار السلطة» ليس الخوف من إقدام الرئيس أو القيادة على حلها وتسليم مفاتيحها، كما يجري التهديد منذ سنوات، حيث اعتُبر مثل هذا الاحتمال مستبعدًا تمامًا، وإنما في الهوة المتزايدة بين الشعب والقيادة الفلسطينية، وفي ظل الأحوال الاقتصادية، وفقدان الأفق السياسي، واندلاع «الانتفاضة» وتداعياتها المُحتملة.

الشيء بالشيء يذكر، حيث قال كيري إنه لم يكن صاحب فكرة الزيارة، وإنما كلّفه الرئيس أوباما بها لتحقيق هدفين: التهدئة، ومنع انهيار السلطة.

في ورشة عمل عقدها مركز مسارات للبحث في انهيار السلطة، تنوعت الآراء وتباينت بين من اعتبر أن انهيار السلطة مرجح، وأنّ مقدماته قد تحققت من خلال أن السلطة قد أصبحت بلا سلطة، خصوصًا بعد اقتحام قوات الاحتلال لمناطق السلطة المصنفة (أ) منذ العام 2002، إذ أصبحت منذ ذلك التاريخ تقوم باقتحام أية منطقة، بما في ذلك المربع الأمني الذي يحتوي على مقرّ الرئيس ومقر رئيس الحكومة، وتعتقل من تشاء وتفعل ما تشاء، بما في ذلك الاغتيال، وهدم المنازل، ونصب الحواجز، وإغلاق إذاعات، ومصادرة حافلات.

كما أن الإدارة المدنية التابعة للاحتلال استرجعت الكثير من صلاحياتها، بالإضافة إلى قطع شوط كبير على طريق خلق واقع احتلالي استيطاني عنصري، يجعل الحل الإسرائيلي التوسعي شيئًا فشيئًا هو الخيار الوحيد الممكن والمطروح عمليًا، وذلك في ظل عودة إسرائيل باتجاهاتها المركزية إلى إحياء هدف إقامة «إسرائيل الكبرى» على مساحة فلسطين، ورفض متزايد لإقامة دولة فلسطينية.

يدلل أصحاب وجهة النظر القائلة بانهيار السلطة أو أنها على وشك الانهيار على رأيهم بأن «الانتفاضة» الحاليّة اندلعت واستمرت من دون معرفة السلطة والقيادة، ومن دون قدرتها على وقفها، وهذا يفقد السلطة المبرر الإسرائيلي لوجودها واستمرارها، وهو القيام بدور وظيفي يتمثل في المساهمة في توفير الأمن للاحتلال، من خلال إدانة ومنع وملاحقة المقاومة والمقاومين.

وتظهر حجتهم من خلال قولهم إن مبرر قيام السلطة أنها جاءت كجزء من عملية سياسية تهدف خلال جدول زمني معين إلى إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وقد تم تجاوز الفترة المحددة بأضعاف عدة، وانتهت ما سميت «عملية سلام» من دون تحقق هذا الهدف، ما ينفي مبرر استمرار السلطة، خصوصًا بعد انقسام السلطة إلى سلطتين، وبعد أن عجزت، أو رفضت، مكونات السلطة إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية وتعطل السلطات والمؤسسات، واختزالها في السلطة التنفيذية التي يتحكم فيها شخص واحد، إضافة إلى تغلغل الفساد، وسوء الإدارة، وتراجع الخدمات الصحية والتعليمية، وعجز الموازنة؛ كل ذلك أدّى إلى أنّ قطاعات متزايدة من الفلسطينيين، يمكن أن تكون قد وصلت إلى أغلبية، لم تعد تنظر أو تعترف أو توافق على وجود السلطة أو استمرارها.

هناك وجهة نظر أخرى، ترى أن السلطة أصبحت سلطة عميقة، وأنها تستمد مبرر وجودها واستمرارها من المنظمة التي لا تزال تمثل الشرعية والمرجعية الفلسطينية، بالرغم من الشلل الذي أصابها منذ توقيع «اتفاق أوسلو»، ومن الدعم الذي تتلقاه من «فتح»، كبرى الفصائل، ومن بقية فصائل منظمة التحرير (حتى «حماس» لا تدعو إلى حل السلطة أو انهيارها)، وكذلك من القمع الذي تمارسه الأجهزة الأمنية التي أصبحت أجهزة جديدة بعد إعادة بنائها بعد الانتفاضة الثانية، بحيث باتت مستعدة لتنفيذ إرادة القيادة السياسية، ومن دعم رأس المال الذي زاد ثروة ونفوذًا، ومن قطاع كبير من المستفيدين من الموظفين وغيرهم من الذين سيدافعون عن وجود السلطة، خصوصا إذا لم يتوفر لهم البديل الأفضل، أو القادر على توظيف مصدر للعيش.

كما أن ما توفره السلطة من خدمات ورواتب وفق نموذج دول العالم الثالث يمدّ السلطة بأسباب الحياة، ويحول دون انهيارها خطر وقوع الفوضى والفلتان الأمني، وخطر نشوء سلطات يتزعمها أمراء حرب يتصارعون فيما بينهم في كل حي وبلدة ومخيم وقرية ومدينة.

يضاف إلى كل ما سبق توفر عوامل فلسطينية وإسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية تدعم استمرار السلطة، ولن تسمح بانهيارها ما دامت تقوم بوظائفها، وتسهم في وجود نوع من الاستقرار، وفي خفض مستوى التوتر؛ بدليل أن السلطة كلما شارفت على الانهيار يتم حقنها بإبر تمد في عمرها، لدرجة يتم دائمًا التلويح بأن هناك مبادرة جديدة لإحياء العملية السياسية قادمة أو تلوح في الأفق، وذلك من أجل إبقاء الوهم ومنع اعتماد خيارات وبدائل أخرى.

وما يبقي السلطة أن إسرائيل لا تفضل أن تتحمل المسؤولية عن الاحتلال، لذلك لاحظنا أنها اتخذت سياسة تبقي السلطة ضعيفة إلى حد أعجز من رفض تطبيق ما تريده إسرائيل، ولكن دون دفعها إلى الانهيار، بحيث تبقيها على حافة الانهيار.

إن القوى والدول الداعمة للسلطة ما دامت عواقب انهيارها أسوأ من مخاطر بقائها ستستمر في دعم السلطة، لذلك رغم تقليل المساعدات للسلطة والعقوبات الأميركية والإسرائيلية، نلاحظ أن الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية تسارعان إلى توفير أسباب بقاء السلطة إذا بدا أنها على وشك الانهيار، من خلال إعادة تحويل المساعدات والعوائد الجمركية، وإقناع الدول المانحة باستئناف تمويل السلطة، إضافة إلى تقديم تسهيلات إسرائيلية لتخفيف وطأة الحياة، مثل تصاريح العمل في إسرائيل وغيرها.

ويجادل أصحاب وجهة النظر التي تستبعد انهيار السلطة بأنها من خلال استمرار التنسيق الأمني تلعب دورًا مهمًا لا غنى عنه بالرغم من اندلاع «الانتفاضة» واستمرارها من دون تحكم من السلطة، وذلك من خلال ما تداولته مصادر إسرائيلية من قيام اجهزة السلطة بمنع وقوع 100 عملية منذ اندلاع «الانتفاضة»، وهناك مصادر فلسطينية تتحدث عن منع 300 عملية.

والأهم أن السلطة لا تزال تُمارس الحكم في مناطقها، ولو في أضيق الحدود، فهي تعتقل كل من تعتقد أنه يهددها، أو يخطط لتنفيذ عمليات مقاومة مسلحة، وتبذل جهدها لمنع انتشار «الانتفاضة»، كما أنها لا تضع ثقلها وراء «الانتفاضة» وتمنع أفراد الأجهزة الأمنية من الانخراط فيها.

لو قررت القيادة والسلطة توفير الحماية والروافع «للانتفاضة»، وشاركت فيها مثلما حدث في الانتفاضة الثانية؛ عندها ستتحول إلى انتفاضة شاملة، وسيبرز ويتصاعد احتمال انهيار السلطة، بل إن أهم الأسباب التي تحول دون تحوّل الموجة الانتفاضية إلى انتفاضة شعبية شاملة أن السلطة لا تريد ذلك، ولعل ما جرى في جامعة خضوري، وقبلها في جامعة النجاح، ومن محاولات جس نبض لمنع اندلاع المواجهات في مناطق التماس والمواجهة في المدن مؤشر بالغ الدلالة على أهمية ما تقوم به السلطة.

لو قامت أجهزة السلطة بقمع التحرك الشعبي مثلما كانت تفعل سابقًا يمكن أن ترتد الانتفاضة على السلطة، وفي هذه الحالة يمكن أن تنهار السلطة.

حل السلطة أو انهيارها ليس خيارًا للفلسطينيين، لأن تقديم الخدمات والإدارة من جهات فلسطينية مسؤولية وطنية، ولكن شرط إعادة النظر في طبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها، بحيث تصبح أداة بيد منظمة التحرير، التي لا بد من إعادة بناء مؤسساتها على أسس جديدة، بحيث تضم مختلف أطياف الشعب الفلسطيني، وتحل محل السلطة إذا انهارت، أو إذا قام الاحتلال بحلها، أي تصبح في هذه الحالة سلطة مقاومة، أو مجاورة للمقاومة، أي سلطة تخدم البرنامج الوطني.

نعم، هذا سيؤدي - إن حدث - إلى اتساع المواجهة للاحتلال، وقد يؤدي ذلك إلى انهيار السلطة، وهذا طبيعي، لأن المواجهة يفرضها الاحتلال، وهي مطلوبة للوصول إلى وضع يصبح فيه الاحتلال مكلفًا لإسرائيل ومن يدعمها.

إن حدوث تطورات دراماتيكية، مثل مجزرة إرهابية إسرائيلية، أو تغيير جوهري في وضع ومكانة الأقصى الشريف، أو عملية استشهادية تؤدي إلى عدد كبير من القتلى في صفوف الإسرائيليين، أو غياب الرئيس أو استقالته قبل الاتفاق على الخلافة، أو تغيير السياسة الفلسطينية الحاليّة من المناوشة إلى المجابهة للاحتلال؛ كل هذه التطورات أو بعضها قد تؤدي إلى انهيار السلطة، مع ملاحظة أن انهيارها في الضفة لا يعني انهيارها في غزة، لأن انسحاب القوات الاحتلالية من داخل القطاع ومحاصرته من الخارج تجعل من الظروف مختلفة بين الضفة والقطاع، بحيث من المرجح أن تبقى السلطة في غزة حتى لو انهارت في الضفة..

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]