عندما يتحدث الصمت معك، فأنت تعجز عن معرفة أي لغة تسمع؟! لغة الألم.. لغة الموت.. لغة الجوع.. لغة الهذيان.. لغة الملائكة.. لغة التشرد.. اللغة التي لا ترصدها الكاميرات أثناء الحروب، واذا ما نظرنا داخل الصمت بعين العقل؛ نجد أن الصمت يولد مع الموت وفي لحظة الإحتضار تموت لغة لتولد لغة أخرى لا يعلمها سوى من كانوا في لوحات الفنان الفلسطيني بشار الحروب بمعرضه الأخير المعنون «شاشة صامتة» في جاليري 1 بمدينة رام الله.
شربت القهوة مع الصديق بشار أكثر من مرة في معمله أثناء محاولاته إعلاء صوته من خلال صمت الأحياء الأموات في لوحاته، وحتى أكون صادقاً مع هؤلاء _الأحياء الأموات_ كان وجودهم في المعمل له صمت مختلف عن الصمت الذي استمعت له في المعرض، وهنا يجسد المعمل والمعرض للوحات بشار فضائين مختلفين في عملية إنتاج الصمت. كانت اللوحات في المعمل تصرخ بصمتها مطالبة الحرية بما تحمله الحرية من معنى كامل: الحركة، الرأي، التعبير، التجمع، المعتقد، الإختيار.... الخ. كنت أشعر في كل مرة أزور بها الفنان بأن أصوات الأحياء الأموات بدأ يرتفع أكثر فأكثر مطالبين الفنان بإخراجهم الى العالم حتى يثوروا بصمتهم المرتفع وحركة أجسادهم التائهة، المرهقة، الهزيلة، على كل من اغتال الإنسانسية على هذا الكوكب.
دخلت المعرض؛ كنت أسأل ذاتي بصوت خافت داخل أعماقي حتى لا أجعل الأموات الأحياء يستمعون بماذا أفكر، وكنت حذرا بعدم إظهار عواطفي وانفعالتي لهم لأن جحوظ عيناههم كان يربك كل من لم يفهم مطالبهم. بدأ عقلي يفيض بأسئلة: كيف جاؤا هنا؟ أفراداً .. متحدين.. مهزومين.. مجتمعين... هل كل شخص يعلم ماذا يريد؟ وما دور كل فرد في سياق فضاء المعرض؟ هل سيحققون مطالبهم بعد تمردهم وخروجهم من المعمل؟!
أمام كل لوحة كنت أقف ليمتزج صمتي مع صمتهم، بعضهم دعاني لأقف بصفهم متمرداً على من يقف أمامهم وهو يلعب دور المشاهد. هناك كانت تقف رؤوس _البورتريهات_ ذات تعابير متنوعة يرددون ما قاله جون ستيوارت ميل بصوت عالي مرتفع من خلال أعينهم:» السبب الوحيد الذي يجعل الإنسانية أو (جزءا منها) تتدخل في حرية أو تصرف أحد أعضاءها هو حماية النفس فقط، وإن السبب الوحيد الذي يعطي الحق لمجتمع حضاري في التدخل في إرادة عضو من أعضائه هو حماية الآخرين من أضرار ذلك التصرف».
بدأ الحضور يتوافد بكثرة، قررت أن أفسح المجال لمن أراد أن يستمع لصوت اللوحات. كنت أقف بزاوية تمكنني من مشاهدة المنظر بزواياه المختلفة؛ الفنان، اللوحات، الحضور. لنبدأ بالفنان بشار الحروب: كان الفنان مبتسما بتجنيده جيشا من الصامتين يعبرون عن ما تريد ريشته الحديث عنه، وكأن الريشة نطقت من خلال الألوان التي رسمت هياكل الثوّار، وكل ثائر يثور بأدواته رغم أن جميعهم اشترك بأداة واحدة وهي الجسد.
كنت أسترق سماع العديد من الأسئلة التي إنهارت على الفنان: كيف نميز المرأة عن الرجل؟ لماذا كل هذا الحزن؟ هل هذه الهياكل كائنات فضائية جديدة؟ هل هم قتلى؟ سجناء؟ لاجئين فلسطينيين أو/و سوريين؟! هل تلك البورتريهات هم من بقية على قيد الحياة في مخيم اليرموك؟ أم هم شهداء صبرا وشاتيلا؟! ولماذا لا يكونوا ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية خرجوا عن صمتهم معترضين بإستمرار النازية والفاشية والإمبريالية بشكلها الجديد تحت مظلة الحرب على الإرهاب!!
أما بالنسبة للوحات والحضور؛ في هذا المعرض هناك جدلية تم خلقها فكانت عكس المعارض التقليدية، وبمعنى أوضح كانت اللوحات هي من تشاهد الحضور وتراقبهم، اللوحات تتحدث عن رأيها بصراحة أما الحضور كانوا هم الصامتين رغم مجاملاتهم لبعضهم البعض، كانت اللوحات متحدة صاحبة قضية بعكس من جاؤا ليشاهدوهم، وهنا برأيي كان اسم المعرض هو اسم الحضور وليس اسم اللوحات.. أعتقد أن اللوحات هي من كانت تسأل الحضور الذي أتقن دور الشاشة الصامتة «الى أين.. فلم يعد أي قيم وأخلاق أمام هذه المشاهد أو الفجائع.... هنا وجه الضحية القاتل».
[email protected]
أضف تعليق