فقدت مدينة الناصرة والأقلية العربية في هذه البلاد، في11 تشرين ثاني، الصديق الفنان المبدع المرحوم الأستاذ يوسف جريس الخل، صاحب الألحان الشجية والباع الطويل في قيادة الجوقات الإنشادية، عن أربعة وثمانين عاماً، وهوأحد أعمدة التربية والفن والموسيقى في الناصرة وفي وسطنا العربي عامة، وقد امتدت صداقتنا وتعاوننا أدبياً وفنياً حوالي سبعين عاماً، وهي سيرة حياة وتاريخ حافل، وسأحاول تلخيصها في هذه المقالة .
بدأت معرفتنا كزمالة مدرسية في مدرسة تراسنطة من الصفوف الإبتدائية، من سنة 1946 وتحولت بعد ذلك إلى صداقة متينة. كانت المدرسة يومها في البناية التي تُعرف اليوم ببناية العمل الكاثوليكي، والتي تقع بجانب بناية الكازانوفا عند مدخل سوق الناصرة القديم.
كنت في الصف السابع، حين عُين الأستاذ يوسف معلماً في الصفوف الدنيا، لذكائه ومهارته، وكان قد أنهى الصف السابع قبلي بسنة، وكان قد بدأ يعلم في المدرسة الأستاذ يوسف زهر (أطال الله في عمره) فأحدث تغييرات حداثية عديدة، واتسمت علاقته مع الطلاب بالودية وبالصداقة، وأسس سرية كشافة للطلاب، وجمعية من طلاب صفنا، وقمنا بنشاطات عديدة وحفلات متواضعة وتمثيليات للطلاب وللأهل، وقد طلبنا من المعلم يوسف أن يمثل معنا في إحدى هذه التمثيليات، لما عُرف عنه من مهارة في التمثيل، كما أنه صاحب صوتٍ جهوري، فلم يرفض وقام بالدور على أحسن وجه، ومنذ هذا العمل بدأت صداقتنا وتعاوننا، بعدها اشتركنا معاً في جوقة الترتيل التابعة لكنيسة اللاتين، ثم اشتركنا عازفين في الفرقة الموسيقية الغربية (الباند) وبعد وفاة المرحوم الأستاذ اسكندر شحتوت قائد الفرقة، استلم قيادتها، وكان قد تعلم الموسيقى -لا أذكر أين – لم يتابع مهنة التعليم بل افتتح دكانا متواضعا للبقالة في مدخل السوق القديم - وأخذ يدرس العبرية في الجامعة المفتوحة -على ما أظن – بعد أن نال الشهادة عُين مدرسا للغة العبرية في كلية راهبات الفرنسيسكان، وبقي يعلم هناك حتى تقاعد. كذلك أخذ على عاتقه قيادة جوقة كنيسة اللاتين للإنشاد الكنسي ولسنين طويلة أيضاً، كذلك قاد جوقة الطائفة المارونية بعد وفاة المرحوم الأستاذ مارون أشقر، وقاد الفرقة النحاسية لفرقة الكشافة المارونية، وحين تأسست جمعية العمل الكاثوليكي في بداية الخمسينات من القرن الماضي، اشتركنا انا وهو فيها وانتخب المرحوم سكرتيراً للهيئة الإدارية وانتخبت أنا أمينا للصندوق، ومن خلال إدارة الجمعية ونشاطاتها توطدت صداقتنا وتعاوننا أكثر، وأنتجنا وقدمنا سنة 1951 مسرحية "نكبة البرامكة" لجمهور الجمعية، من إخراج المرحوم اسكندر شحتوت، قام هو بدور هارون الرشيد وقمت بدور أحد أبنائه لاأذكر أهو الأمين أم المأمون. بعد ذلك ابعدتنا الحياة والعمل والزواج عن بعضنا فترة من الزمن، لكن صداقتنا لم تنته.
فحين تأسست فرقة المسرح الحديث سنة 1965 وأخذت تقدم المسرحيات، انضممت كعضو مؤازر وصرت أكتب عن أعمالها في الصحف والمجلات ،محللا وناقداً، وكان الأستاذ يوسف قد انتخب رئيسا ومديرا فنيا لهذا المسرح، وهو شخص حين توكل إليه مسؤولية معينة يقوم بها بجدية وأمانة وبأكمل وجه، وقد ازدهر هذا المسرح بسرعة وثبات، وقدم أعمالا لازالت تُذكر حتى الآن، وقد ألَّفتُ مسرحية غنائية (الأرض الخضرا) لحنها الأستاذ يوسف، وبدأ اعضاء المسرح بالتمرينات والمراجعات عليها، لكن أخذت الخلافات والمنافسات الشخصية تطفو على السطح بين أعضاء المسرح، ومع قلة الموارد المالية واستقالة المرحوم من إدارة المسرح توقف العمل على المسرحية. وحين استلم المخرج فؤاد عوض إدارة بيت "فرانك سينترا" بدأ يعمل على انتاج هذه المسرحية، وبدأت التمارين، لكن شح الميزانيات أوقف العمل مرة أخرى، وأظنها ما زالت تقبع في أحد جوارير مكتبة المرحوم.
بعد أن افتتحت المكتبة الحديثة سنة 1970 عادت هذة الصداقة إلى عهدها السابق حيث أخذ يتردد على المكتبة، وكانت الإذاعة الإسرائيلية قد أخذت بإذاعة الأغنيات المحلية، وأخذ الشعراء والملحنون يرسلون إليها الأغاني من تأليفهم وتلحينهم لإذاعتها. كتبتُ عدة أغاني لحن أغلبها الأستاذ يوسف، وتوجنا هذا التعاون بأغنية "مشوار الحلوة" -غناها المطرب متري بولس – وقد فازت بالجائزة الأولى في أول مهرجان للأغنية المحلية، أقامته الإذاعة في القدس، في منتصف السبعينات من القرن الماضي. أما آخر تعاون فني بيننا كان نشيداً كتبته بعنوان -نشيد للناصرة– لحنه المرحوم وكان ينوي تقديمه مع "جوقة الناصرة للإنشاد" المميزة والتي كان يقودها، وقدم من خلالها أعمالا كثيرة، ولا أدري ما الذي أوقفه عن ذلك، فقد أقعدني المرض عن متابعة الأمر.
نستطيع القول أن المرحوم الأستاذ يوسف الخل كان شعلة من النشاط الإجتماعي والموسيقي والفني، يعمل بصمت ودون كلل أو تذمر، قدم لمجتمعه أعمالاً ابداعية خلاقة، وان صداقتنا وتعاوننا بقيا متينين ومتماسكين طوال الوقت.
علينا ان لا ننسى هذا الفنان الكبير، وأن نحفظ أعماله وننشرها. له الرحمة ولأهله الصبر والسلوان.
[email protected]
أضف تعليق