حظيت الجمعة الماضي بفرصة الصلاة في المسجد الأقصى المبارك وزيارة المدينة المقدسة.
زيارة تشرح الصدر وتملأ النفس وتثير المشاعر وتشفي الروح.

القدس مدينة الفلسطينيين الأزلية، عاصمتهم الأبدية، محج عيونهم، وموطن حنينهم، وقبلة أرواحهم، ومبتغى نضالهم، وأول كلامهم وآخره، وذروة حلمهم وأجمل صحوهم.

أن تكون في القدس فأنت تعيد نفسك إلى حيث تشتهي، وتقف حيث تشعر قدماك بامتدادهما في عمق الأرض.

في الصباح وقبل أن تشرق الشمس تحركنا عبر معبر بيت حانون (إيرز) حيث يذهب كل يوم جمعة مائتا مواطن من غزة للصلاة في المدينة المقدسة بترتيب من هيئة الشؤون المدينة. يتجمعون في باصات ثم ينطلقون صوب القدس يلبون نداء الروح.

الموظفون مشغولون بإنهاء ترتيبات مرور المصلين، والنسوة عبر الحاجز، والرجال يستعجلون الباص للتحرك حتى ينعموا بزيارة المدينة وكسب المزيد من الوقت فيها، والمشي في شوارعها وأسواقها قبل أن يحين موعد الصلاة.

في الطريق نمر على القرى الفلسطينية المهجرة التي هاجر منها جل سكان قطاع غزة، وكثير من ركاب الحافلة لابد أن يمروا على قريتهم أو بلدتهم التي أبدلتهم إياها النكبة بمخيم للاجئين. لا شيء يذهب.

لا شيء يجعل المرء ينسى، حتى قسوة الحياة وجحيمها. الموظف في الباص مشغول بشرح بعض الإرشادات للركاب حول ضرورة التجمع بعد انتهاء الصلاة حيث سينزلهم الباص قرب باب الساهرة.

يتفقد الركاب راكباً راكباً، ويعيد مرة أخرى تعليمات السلامة والإرشاد، ثم وكلما مر على قرية مهجرة ذكرها بالتفصيل وشرح عن تلك القرى التي تحدها وتجاورها ولا يمكن للراكب أن يراها، ثم يسرد بعض المعلومات المتوفرة لديه عنها أو عن التاريخ المصاحب لحياتها العامرة عبر آلاف السنين منذ الكنعاني الأول. الرجل تحول إلى مرشد سياحي ودليل ثقافي ووطني.

الكثير من ركاب الحافلة من النسوة والرجال الطاعنين في السن بعضهم عاش في تلك القرى بعض السنين قبل النكبة، وأغلبهم شهد سنوات اللجوء الأولى، وربما ولد فيما العائلة تترك مرتع الأحلام إلى شقاء النكبة ونارها اللاهبة.

أقول للصديق ناصر الكيلاني، الذي يجلس بجواري، لو أن أحدهم يقوم بعمل كتابي تثقيفي حول تلك القرى يسرد فيه المعلومات المختلفة والبيانات التي توفرت عنها قبل النكبة، وربما بعض ما علق في كتب التاريخ من أحداث مرت بها وكانت مسرحاً لها، مزوداً بالشروحات والصور المتوفرة.

كتاب يقدم للطفل ربما أو للفتى من الأجيال اللاحقة صورة مستفيضة عن فلسطين التي يحبونها، والتي يريدون أن يتذكروها.

يكون مثلاً شيئاً يشبه "في الطريق إلى القدس" أو من غزة إلى القدس، حتى نظل نتذكر أن فلسطين أكبر من تلك الأحلام البسيطة التي حولت حياتنا وسياستنا إلى بعض الصراعات والاختلافات والانقسامات.

فلسطين التي تركض حقولها خلفنا فيما الباص ينهش الطريق كأنه يدرك خفق قلوبنا وهي تشتم رائحة الأرض، ورجفة الأجساد وهي تقترب من عاصمة الكون، ومهد الديانات ومبعث الرسل والقديسين.

تظل الفكرة عالقة في رأسي وأنا أتابع تلك التفاصيل الصغيرة للطريق التي نقطعها وكأننا لا نريد أن نصل ونريد أن نصل. لا نريد أن نصل، كأنني أتمنى لو أن الباص لا يصل ويبقى يجوب بنا فلسطين، فلسطين أرض الآباء والأجداد، الحلم الأثير لكل فلسطيني أينما رمت به المنافي، وتاهت به سفن العودة.

لابد أن الكثير من الجهد قد عمل في هذا الجانب، بالطبع، ولا بد أن الكثير من الكتب والدراسات قد تمت حول القرى المهجرة، لكن ما كنت أصبو له أنا وصديقي ناصر كان مختلفاً، وربما كان من هاجس اللحظة.

أتذكر حين كنت طالباً في جامعة بيرزيت وكنا نقطع الطريق من غزة بالسيارة مباشرة نحو القدس أو رام الله، في مطالع تسعينيات القرن الماضي، أي قبل عقدين ونصف العقد، كانت سيارات المرسيدس التي تنطلق من "الساحة" أو ميدان فلسطين تمتلئ بنا نحن الطلاب وبعض النسوة والرجال الطاعنين في السن يذهبون للعلاج في القدس أو للصلاة فيها.

وكلما مررنا عن قرية، برعت النسوة أو الرجال في السرد على الشبان الراكبين عن تلك القرى والشرح لها. وقد يفيض الشوق، وتلسع سياطه عتبات الروح، فيرتجف الجسد وتدمع العيون، خاصة حين يستذكر أحدهم قصة مر بها، أو حادثاً عاشه قرب مكان نمر عليه.

امرأة عجوز ذات نهار طلبت من السائق أن يتوقف قرب المسمية، حيث مازالت شجرة الجميز التي زفت تحتها واقفة شامخة تقول إن التاريخ لا يشترى، وإن المكان يظل المكان حتى لو تغيرت معالمه.

بكت وهي تقف تحت الشجرة تستعيد تلك اللحظات الصاخبة من شبابها حين كانت عروساً وكانت الدنيا تضحك وتضحك، إلى أن التهمت النكبة كل فرح ممكن.

أيضاً في الطريق لابد من رؤية بعض فصول المدرسة الباقية، حيث درس الطفل عبد الله الحوراني الذي نذر حياته بعد ذلك لقضية اللاجئين.

الذاكرة لا تغيب، كما أن الزمن لا يمحو ما يعلق بالروح، لكن لابد من حاجة لإذكاء الروح وتلميع الذاكرة والحفاظ عليها. في القدس، يتجول المصلون في الطرقات يشترون الهدايا، يأكلون كعك القدس الشهي، ثم يتجولون في كل زاوية في الحرم الشريف، كأنهم يملؤون عيونهم منه، يريدون أن تظل بقايا روائحه عالقة على ملابسهم. كل شيء في القدس، رغم التهويد والشرطة والمستوطنين، يقول إنها للفلسطينيين.

رائحة المكان، تفاصيله، الأسواق، الأزقة والحارات، قباب المساجد، أجراس الكنائس، رائحة البهارات. أما ما دون ذلك فليس إلا من بقايا من قد مر في التاريخ، كما سيمر الغزاة الجدد، وتبقى القدس مدينة الصلاة، المدينة حيث يكون لاسم الله كل المعاني المتحققة في كل الأديان، وحيث يكون الإيمان خالصاً لوجهه. بعد الصلاة سيعود المصلون إلى الباصات حيث يهتم الموظفون بتفاصيل عودتهم ويتأكدون من أن الجميع عاد سالماً.

عيونهم تشخص نحو المدينة وهم يغادرونها، كما تشخص عيون ملايين الفلسطينيين والعرب إلى مدينة مدنيتهم الأولى منذ فجر التاريخ حتى اليوم.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]