أمواج الاستغاثة التي تضرب محيط العالم العربي منذ أربع سنوات، لم تلطم ضمائر الحكّام العرب الميْتة، والغرب غضّ نظره عنها، ولكن بعد زلزال الإرهاب المدمّر للبنية الإنسانية الذي ضرَب العاصمة الفرنسيّة مؤخّرًا، تَبِعَهُ تسونامي من التنديد العالمي والعربي، اجتاح أعلى مستويات التعاطف البشري، حتّى طال موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".

قبل وقوع أحداث فرنسا، كان تفعيل خاصيّة Safety Check in أي "التحقّق من السّلامة"، فقط عند حصول كارثة طبيعيّة، لكن إدارة الحُكم المركزي في دولة "فيسبوك" (كما لُقّبَ مؤخّرًا) الموجودة في أمريكا، قرّرت تغيير تفعيلها إلى ساعة حدوث كارثة بشريّة، فأطلقتها في أعقاب العمليّات الإرهابيّة على فرنسا، وما أن ضغط سكّان العالم ومجتمعنا على خاصيّة "التحقّق من السلامة"، حتى اشتغلت حالاً رافعَة الأحاسيس الفوريّة في دولة "فيسبوك" العظمى، ورفَعَت مشاعرهم إلى "مستوى الحدث الفَرنسي الجَلل".

هكذا تقنّعت وجوه صور صفحاتهم بأقنعة العَلَم الفرنسي، تضامنًا مع الفرنسيين، وتخلّوا للأسف عن التّضامن المعنوي مع بيروت، التي باتت منذ نصف قرنٍ وأكثر حلبة للنزاعات الإقليميّة والدّينيّة. لم يأبه كثيرًا رئيس دولة "فيسبوك" مارك تسوكربرج للانتقادات اللاذعة التي وجّهها له العالم العربي، قائلاً إنه لا يُفرّق بين جنسية وأخرى. رئيس هذه الدّولة هو طاغية إلكتروني حديث، مُتَخفٍّ، يسن القوانين المتعلّقة بدستور دولته كما يحلو له، يتحكّم كليًّا بمشاعرنا، يتجسّس خفيةً على معلوماتنا الشخصيّة، التي يعتبرها كنزًا إعلانيًّا للمعلنين.

أمّا بالنسبة لتفجير بيروت، فإنّه لم يَعنِ أحدًا في دولة "فيسبوك" المتعاطفة مع رعاياها الأجانب، ولم يَعنِ سكّان العالم المتعاطفين مع أوصيائهم الدّوليين، لأن تفجير الضّاحيَة "شأنًا لبنانيًّا داخليًّا"!... لم يُزعزع عدد ضحاياه الدّوَل الكُبرى، الذين اعتبروه عمليّة انتقاميّة "عاديّة"، مثل التي تحدُث بين الفينة والأخرى في إحدى ضواحي السياسة اللبنانيّة المعتمة!!... اعتبرَت دُوَل صنّاع الفرار من المسؤولية، انفجار برج البراجنة، صراعًا عقائديًّا بين حزب الله والتنظيمات الإسلاميّة المتطرّفة! بِما أنه لم يمِس أبدًا بمصالحها العليا، لم يُعطّل حراكها السياسي.

أريد أن أقول لجميع المنتسبين لموقع "فيسبوك" الصغار والكِبار: صحيح فرنسا أكثر الدول مساندةً لمآسي الشعب الفلسطيني والأكثر حِرصًا على قضيّته العادلة، ويحقُّ لكم أن تتضامنوا مع الشعب الفرنسي المنكوب، لكن لا تنسوا أن فرنسا دولة استعماريّة، وبعد هذه الاعتداءات، سيتحوّل كل فرنسي جذوره عربيّة إلى مشبوه، كما حصل في الولايات المتحدة، في أعقاب تفجير مركز التجارة العالمي... اليوم غيّرت فرنسا سياستها المتسامحة مع الأصوليين المتطرّفين، وتقصف معاقل داعش، ليس على أرضٍ أوروبيّة، بل على أرضٍ عربيّة!!

نزفَت الحرب الأهليّة في سوريّا رُبع مليون شهيد سوري خلال أربع سنوات، وجفّ بترول تعاطف العرب الإنساني!! لدرجة أن أمريكا لم تُحرّك أذرُع إغاثتها الطّويلة، بل حرّكت آليّات بحثها عن الأسلحة الكيماويّة لإخراجها من الأراضي السوريّة، من أجل أن تضمن أمن إسرائيل!! ألا يستحق الشّعب اللبناني أن يشرب من قارورة دعمنا المعنوي له؟!!

تجاهُل التفجير الآثم الذي ضرب منطقة الضاحية جنوبي بيروت، نابع من لهاث الشّعب العربي وراء تحديثات الفيسبوك العالميّة، ليُظهر للعالَم أنّه غير متخلّف، بل يتابع الحداثة والتطوّر بشغف، مع أنّه بتعاطفه مع فرنسا، نسي أن لبنان الذي ما زال يحتضن قسمًا كبيرًا من اللاجئين الفلسطينيين، عانت عاصمته بيروت من حصار شارون لمدّة 40 يومًا، في عام 1982، بسبب وجود منظمة التحرير الفلسطينية، لذلك تعالوا نحاصرها بتعاطفنا مع ضحايا برج البراجنة، فهُم أيضًا يستحقّون منّا لفتة إنسانيّة...

لبنان يستحقّ منّا تضامنًا عربيًّا ومحليًّا مع مآسيه المزمنة، ولا يحتاج لأقنعة التعاطف الغربيّة المزيّفة، لأن اللبنانيّون نزعوا عن وجوههم أقنعة الأحزان، وهُم قادرون أن ينهضوا من تحت ردم الإرهاب بعزيمةٍ أقوى وإرادةٍ أصلَب. لذا أناشد المواطنون الطّوعيّون في دولة "فيسبوك"، بأن ينزعوا أقنعة التعاطف الفرنسيّة عن صفحاتهم التفاعُليّة، فالكوارث العربيّة التي تنزل فوق رؤوسنا كالصّواعق يوميًّا، تحت شعار الخليع العربي، باتت أشدّ وطأةً من أي عمليّة إرهابية تحصل في الدّول الغربيّة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]