مرّت الذكرى السابعة والعشرون لإعلان الاستقلال، ولولا العطلة الرسمية وبعض الاحتفالات والتصريحات المتواضعة حول هذه المناسبة لمرّت دون أن يلتفت إليها أحد، وهذا أمر طبيعي، لأن «إعلان الاستقلال» الذي أصبح ممكنًا بفضل الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في كانون الأول 1987 كان يستند إلى رؤية أن تجسيد الاستقلال بات قريبًا وأن الدولة الفلسطينية باتت على مرمى حجر.
كنت من مؤيدي «إعلان الاستقلال» دون وهم أن تجسيده بات قريبًا. والسؤال الآن بعد مرور كل هذه السنوات: هل لا يزال هذا الإعلان ساري المفعول، أم فقد أهميته وجدواه؟ ما يطرح هذا السؤال فرض إسرائيل لحقائق احتلالية واستيطانية وعنصرية، وموت ما سمّي «عملية السلام»، الأمر الذي يجعل إقامة الدولة الفلسطينية أمرًا شبه مستحيل على الأقل في المدى القريب.
إن تغيّر الظروف والأحوال الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية القائمة الآن عمّا كانت عليه حين «إعلان الاستقلال» يعيد طرح هذه القضية للنقاش مجددًا. فقد كنّا في حال أفضل بكثير مما عليه نحن الآن، في أيام الحرب الباردة وصراع القطبين الاشتراكي المناصر للشعوب والرأسمالي المعادي لها، وأيام التضامن العربي، وحينما كانت منظمة التحرير الكيان الوطني الذي يمثل جميع الفلسطينيين، وحاملة راية حركة التحرير العالمية بعد أن استلمتها من فيتنام المنتصرة، وفي ظل وجود مؤسسة وطنية جامعة، وقيادة وأهداف واحدة، وشعب واحد، وقضية واحدة، وأرض واحدة. وأصبحنا نعيش في عصر العولمة في ظل سيطرة النظام السياسي الواحد، الذي كان تحت سيطرة قطب واحد، وأصبح الآن متعدد الأقطاب. هذا النظام الرأسمالي الاستغلالي الجشع الذي ينمّي المصلحة والفردية على حساب كل شيء، ما جعل الصراع بين الأقطاب المتعددة ليس صراعًا بين معسكر قوى التحرر والتقدم والاشتراكية ومعسكر قوى الاستعمار والاستغلال والرأسمالية والصهيونية والرجعية، بل صراع على من يحقق مكاسب ونفوذ أكثر مهما كان الثمن.
لقد بتنا نعيش في عصر التردي والهوان والشرذمة العربية وتوغل إسرائيل وصعود أنظمة إقليمية تتنافس فيما بينها وبين الدول الكبرى على تقاسم مصالح ومناطق النفوذ. السؤال بعد هذه التجربة وما كشفته وأوجدته من حقائق: هل كان طرح شعار الدولة و»إعلان الاستقلال» صائبًا، أم خاطئًا من الأساس، أم كان صائبًا ولكن السياسة والأدوات التي اعتمدت لتحقيقه هي الخاطئة، أم أن مثل هذا البرنامج لا يمكن إلّا أن يؤدي إلى مثل هذه النتائج؟ أصحاب وجهة النظر التي ترى بخطئه منذ البداية، يَرَوْن أن من طرح برنامج «الدولة والعودة وتقرير المصير» كان يعرف منذ البداية أنه كان مقبلًا على مقايضة بين الدولة وحق العودة، لأن إسرائيل لا يمكن أن تقبل إقامة دولة على الأراضي المحتلة العام 1967، وتوافق في نفس الوقت على عودة اللاجئين، ما يعني إنهاء كونها دولة «يهودية»، لأن تدفق ملايين اللاجئين أو مئات الآلاف منهم يعني نزع الصفة «اليهودية» عن إسرائيل خلال سنوات قليلة، أو خلال فترة أطول، وفقًا لعدد اللاجئين الذين سيعودون.
بالرغم من صعوبة الجزم بأن القيادة الفلسطينية عرفت منذ البداية أنها مقبلة على تلك المقايضة، ولكن من المؤكد أنها انتهت إليها، بل انتهت في الحقيقة إلى أقل منها. في ضوء تراجع إسرائيل عن «اتفاق أوسلو» كونه - بالرغم من بؤسه الشديد - أعطى الفلسطينيين من وجهة نظر إسرائيلية راجحة أكثر مما يستحقون، أو يستطيعون الحصول عليه، كما ظهر في اغتيال رابين، ومجيء حكومات إسرائيلية متتالية كانت ترفض تباعًا الموافقة على تطبيق الالتزامات الإسرائيلية في أوسلو كما ظهر في البداية من خلال مطالبتها بدمج مستحقات المرحلتين الانتقالية والنهائية؛ فبدلًا من تجاوزه على أساس القاعدة القانونية المعروفة «المعاملة بالمثل، وأنك غير ملزم بأي اتفاق في حال لم يلتزم الطرف الثاني بالتزاماته»، قدّم الفلسطينيون تنازلات جديدة مقابل ما يمكن أن يحصلوا عليه، لأن التنازلات التي قُدّمت في أوسلو بالرغم من أهميتها وخطورتها التاريخية أصبحت من الماضي، بينما لسان حال إسرائيل يقول «هل من مزيد».
لمعالجة هذه التطورات السلبية للغاية، اعتقدت القيادة الفلسطينية أن بإمكانها التغلب عليها عبر تقديم المزيد من التنازلات، الأمر الذي أدى إلى العكس تمامًا، إلى فتح شهية إسرائيل لهضم تلك التنازلات والمطالبة بالمزيد منها، إضافة إلى وضع شروط تعجيزية لتبرير عدم تقديم أي شيء للفلسطينيين، مثل الاعتراف بإسرائيلية كدولة «يهودية». إذا رصدنا محطات ومراحل التنازلات سنجد أنها بدأت بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ونبذ «العنف والإرهاب» حتى بأثر رجعي، والالتزام بتطبيق الاتفاقيات، حتى ولو من جانب واحد، ثم التساهل إزاء عدم تطبيق إسرائيل لالتزاماتها في الفترة الانتقالية، على أساس وهم بأن ما لا نأخذه بالمفرق في المرحلة الانتقالية سنأخذه بالجملة في الاتفاق النهائي.
في هذا السياق، بلعت القيادة الفلسطينية انتهاء المرحلة الانتقالية من دون تطبيق الالتزامات الإسرائيلية، ومن دون التمسك بالسقف الزمني للتوصل إلى اتفاق نهائي، واعتبار تجاوزه بداية لمرحلة جديدة مختلفة جذريًا عن سابقتها، بل تمسكت القيادة باستمرار المرحلة الانتقالية لمدة عام جديد في البداية، ولفترة غير محدودة فيما بعد، وجدنا فيها المزيد من التنازلات التي تمثلت بالموافقة على «معايير كلينتون» لحل قضية اللاجئين التي فرّغتها من مضمونها تمامًا، وبعد ذلك الموافقة على ما جاء في «مبادرة السلام العربية» من حل متفق عليه لقضية اللاجئين، ولم تنفع هذه المرونة رغم الموافقة على مبدأ «تبادل الأراضي»، الذي يسمح بضم الكتل الاستيطانية ومعظم المستوطنات المقامة في القدس الشرقية إلى إسرائيل، على أساس أن «الأحياء اليهودية» (أي المستعمرات الاستيطانية) تُضَم لإسرائيل، بينما تضم الأحياء العربية للدولة الفلسطينية.
انتهت مسيرة ما يسمى «عملية السلام» إلى تنازلات فلسطينية بالجملة والمفرق، واتجاه إسرائيل في المقابل نحو المزيد من التطرّف، حتى عن مسألة إقامة دويلة فلسطينية مسخ على جزء من الأرض المحتلة، لدرجة أن بعض الوزراء في الحكومة الاسرائيلية الحاليّة لا يعترفون بوجود شعب فلسطيني، ولا في حقه في إقامة أي نوع من أنواع الكيان السياسي، ولو أقل من دولة، مثل حكم ذاتي محدود أو موسع.
ما سبق يطرح إجراء مراجعة عميقة وشاملة، بما فيها لبرنامج «الدولة والعودة وتقرير المصير» لتحديد: هل هو برنامج صحيح أم لا، أو أنه كان صحيحًا وتجاوزته الأحداث، أم لا يزال صحيحًا بينما الإستراتيجية التي اعتمدت لتحقيقه (إستراتيجة المفاوضات والعمل الديبلوماسي وإثبات حسن النية والجدارة وبناء المؤسسات والدولة تحت الاحتلال) هي الخاطئة، وأن اعتراف المجتمع الدولي والأمم المتحدة بإسرائيل وعدم اعترافهما باحتلال الضفة والقطاع يسمح بطرح برنامج يستهدف تحريرهما بصورة تسبق التوصل إلى الحل الجذري التاريخي للقضية الفلسطينية. ما منع قيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وتجسيد حق العودة والحق في تقرير المصير هو الاختلال الفادح في ميزان القوى، وكون الاحتلال مربحًا جدًا لإسرائيل، وهو كذلك الذي يمنع إقامة دولة واحدة مهما كان شكلها. إسرائيل عارضت إقامة الدولة، وهي ستعارض إقامة الدولة الواحدة بشكل أكبر، ولمن يقول إن الدولة الواحدة قائمة أو الدولة الفلسطينية على مرمى حجر نقول لكليهما: حيلكما .. يبدو أننا نعيش في عوالم وبلدان مختلفة.
فإسرائيل دولة بنظامين ولا تعطي الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال حقوقه، حتى تلك المنصوص عليها في القانون الدولي واتفاقيات جنيف الأربع، ولن تنسحب أو تصبح دولة ديمقراطية إلا بعد هزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري إلى درجة كافية لتحقيق هذا الهدف أو ذاك. تأسيسًا على ما سبق، فإنّ المطلوب النضال لتغيير موازين القوى بما يسمح بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة رغمًا عن إسرائيل، من دون تنازلات واعتراف .. إلخ، تمامًا مثلما انسحبت من جنوب لبنان ومن قطاع غزة، بالرغم من أن «انسحابها» من القطاع جاء لظروف وملابسات مختلفة، منها ما يتعلق بالمقاومة، والكثافة السكانية، وعدم الحاجة الماسة للقطاع، ولكي تستخدم «انسحابها» من القطاع كخطوة إلى الوراء في غزة من أجل التقدم عشر خطوات إلى الأمام في الضفة، التي تعتبر السيطرة عليها الهدف الأكبر لإسرائيل. أعتقد بأن البرنامج الذي استندت إليه حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) الذي يتضمن إنهاء الاحتلال وحق العودة والمساواة هو البرنامج المناسب؛ كونه يحافظ على الوحدة على أساس القواسم المشتركة بين الفلسطينيين، ويلحظ في نفس الوقت خصوصية كل تجمع فلسطيني.
[email protected]
أضف تعليق