لم يكتمل حلم عرفات بالقدس، ولم يريدوا له أن يقف على منصة الاحتفال بتحرير القدس، وإلقاء التحية على الزهرات والأشبال الذين يحملون علم فلسطين، ويمرون في مشهد احتفالي أمام المنصة التي تمتلئ بالضيوف الكبار من كل أنحاء العالم.

لم تكن الشيخوخة أو المرض هي من وضع حداً لحياة عرفات، الذي اصطادوه اغتيالاً، بعد عشرات المحاولات التي فشلت أمام يقظة الرجل، الذي ينام وهو صاحي الذهن والأعصاب، غير أن عرفات وضع المداميك القوية التي تؤسس لتحقيق الحلم.

لزعيم الزعماء، وعنقاء فلسطين، الذي توارى جسده ولم تتوار ذكراه، وفضائله الكبيرة، لهذا الزعيم الكبير ما له وما عليه، لكنه الرجل الذي اختلف معه الكل بما في ذلك بعض زملائه في قيادة حركة فتح، لكنهم لم يختلفوا عليه.

من الصعب أن تنجح مقالة حتى لو كانت طويلة، أو ينجح أي خطاب في أن يلخص تجربة غنية مليئة بالأحداث، وطويلة جداً، كتجربة عرفات.

حين تعوز العربي، الوقائع الحديثة، التي تؤكد أن الأمة العربية أمة مرموقة، وتحظى بمكانة معترف بها بين الأمم، يقوم العربي باستدعاء التاريخ، ويستدعي أسماء عدد من مشاهير الطب والعلم الذين نبغوا في أزمنتهم، ولا ينجح العربي في أن يقدم من هؤلاء المشاهير ما يعزز الثقة بالنفس والأمة، في زمن العصرنة والتطور التكنولوجي الهائل، الأمر مختلف بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي يعتز بانتمائه للأمة العربية، فيقدم لها قائمة طويلة من الزعماء والقادة على مذبح النضال التحرري ضد استعمار استثنائي لا تتوقف مخاطره، وأطماعه عند حدود ارض وشعب وتاريخ فلسطين.

على كل حال لا أجد متسعاً للمرور حتى ولو بكلمات مقتضبة على تاريخ هذا الزعيم، ولكني أود التركيز على درس البداية، والذي ينطوي على مفارقة ذات قيمة سواء فيما يتعلق بالزمن السابق أو الزمن الراهن.

الأمر يتعلق بتساؤل مفعم بالتفاؤل إزاء نضج الشباب وكل قيادات الثورة، ومفجروها كانوا من شباب العشرينيات من أعمارهم بحيث أدركوا بالقول والفعل، مدى الضرورة لبلورة الهُويّة الوطنية الطلائعية للشعب الفلسطيني، ومدى الضرورة، لاعتماد الكفاح المسلح سبيلاً للخروج الإيجابي الفاعل عن الوصاية العربية، والتمرد على حسابات النظام العربي الرسمي، وهي حسابات معقدة وشائكة حتى لو كان زعيم تاريخي كبير مثل الراحل جمال عبد الناصر هو الذي كان يتصدر المشهد العربي.

كانت الحكمة تقول «لا يحكّ جلدك إلاّ ظفرك»، فما كان للشعب الذي خططت الدوائر الاستعمارية والصهيونية، لتغييبه عبر إذابته في محيطه العربي، ما كان لهذا الشعب إلاّ أن يحمل راية الإعلان عن وجوده بقوة، والإعلان عن هُويّته، وأن يفرض عبر زمن النضال، حقيقة وجوده التي لا يوجد على الأرض ما ومن ينكرها.

هذا الإيمان بقدرة ونضج الشباب الفلسطيني، يجعلنا نتساءل عن دور القيادات، التي تتحدى الزمن بطول أعمارها، إزاء مسؤولياتهم في إفساح المجال واسعاً أمام شباب يمتلكون قدرات هائلة عقلية وتكنولوجية، ومعارف، وطاقة بدنية وتستحق أن تحوز على الثقة التي حازت عليها القيادات الشبابية التي مثلها عرفات ورفاقه في زمانهم الأول.

الآن وفي الذكرى الحادية عشرة لرحيله، يكشف اللواء عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، رئيس لجنة التحقيق الفلسطينية عن أن التحقيقات التي أجرتها اللجنة توصلت إلى معرفة العنصر التنفيذي، الذي بالتأكيد ستكشف التحقيقات معه هُويّة الجهة التي دفعته ووقفت خلفه.

ثمة من يعتقد أنه كان على الطيراوي أن يكشف عن اسم وهُويّة مرتكب الجريمة وأن يفتح الملف على اتساعه، الأمر الذي سيفك عقد وشيفرات ظلت غامضة كلها ما عدا أن الشعب الفلسطيني بأسره مقتنع بأن إسرائيل هي المسؤولة وليس بالمعنى الحصري عن هذا الاغتيال السياسي.

على أن فتح هذا الملف، يحتاج إلى دراسة متأنية ومسؤولة من قبل القيادة الفلسطينية، حتى لا يتسبب التسرع في ردود أفعال غير محدودة، ومن قبل أطراف ربما تحرص القيادة على أن لا تضعها في خانة الحرج أو الاتهام، ذلك أن فتح الملف مثلاً يفترض أن يعطي إجابة عن نتائج التحقيقات المخبرية الفرنسية والسويسرية والروسية.

هذا الإعلان يضع بين يدي القيادة سلاحاً آخر مثله مثل ملفات جرائم الحرب الإسرائيلية، والموقف من اوسلو واشتراطاته وقيوده، ما يستدعي تحضير الذات، قبل أن تقرر القيادة كسر الزجاج الهش، لأن ذلك يعني الانتقال إلى مربع الصراع المفتوح.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]