كانت فلسطين كلها على موعدٍ دائماً مع الانتفاضة الشعبية الثالثة، وكان الشعب ينتظرها بفارغ الصبر، وكانت كل الإشارات تدل على أنها قادمةٌ لا محالة، وأنها ستكون الرد الفلسطيني الحاسم على كل الإجراءات والاعتداءات الإسرائيلية، فالفلسطينيون في الوطن وفي الشتات يشعرون بعقم المفاوضات مع العدو الصهيوني، وأنها لن تفضي إلى شئ، وأن الوعود الإسرائيلية والضمانات الأمريكية والدولية لن تمنح الفلسطينيين شيئاً، ولن تحقق لهم دولة، ولن تعيد لهم وطناً، ولن تسمح للاجئين بالعودة إلى بلداتهم وقراهم في فلسطين المحتلة، ولن تحقق لهم شيئاً من الوعود التي قطعتها، ولن تلتزم بالضمانات التي أعلنتها.
منت الولايات المتحدة الأمريكية طويلاً، ومعها دولٌ أوروبية كثيرة، السلطة الفلسطينية بعسل السلام، وبرفاهية الحياة ورغد العيش، وبالمن والسلوى الذي ينتظرها في نهاية الطريق، شرط أن تتحلى بالصبر وسعة الصدر، وأن تتحمل بعض الأذى والقليل من الحرمان والمعاناة، وأن تتعاون مع الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية، وأن تحسن تفسير تصرفاتها، وألا تشك في سياساتها، وألا تؤلب المجتمع الدولي ضدها، وألا تحرض الشارع الفلسطيني وتؤجج مشاعره، وألا تستعجل الخطى معها، ولا تفرض عليها شروطاً مسبقة، ولا أخرى مزعجة، بل عليها أن تتفهم وجود الأحزاب الدينية اليهودية المتشددة، وشروط المستوطنين القاسية، ومواقف اليمين المتطرف، وغيرهم من أعضاء الائتلاف الحكومي الذي يحترمه نتنياهو ويلتزم بالسياسة معهم.
كذب الفلسطينيون الوعود الأمريكية، وفضحوا تعهداتها وضماناتها، ويأسوا من مشاريع التسوية، ومن خطط السلام، ومن المبادرات الدولية وشعاراتها الزائفة، وملوا زيارات وزراء الخارجية المكوكية السياحية، وشعروا بأن ما يطرحونه عليهم من مشاريع وأفكار، ورؤى ومواعيد وتواريخ نهائية، إنما هي كذبٌ وسراب، وهي لتضييع الوقت وذر الرماد في العيون، وتمكين العدو على الأرض أكثر، ليتمكن من تنفيذ المزيد من مخططاته، مستغلاً تبني السلطة الفلسطينية لخيار التسوية حلاً وحيداً للقضية الفلسطينية، ورفضها ورئيسها لكل مشاريع المقاومة، بل ومقاومته ومحاربته لها، وتحديه لكل القوى والفصائل التي تتبناها، واعتقاله للقائمين عليها، رغم علمه بعقم هذا الخيار، وأنه لن يحقق أياً من الأهداف الوطنية الفلسطينية.
ظن العدو الإسرائيلي في ظل انشغال الدول العربية وحكوماتها بمشاكلها الداخلية، أن الفلسطينيين سيقبلون بهذا الواقع، وسيستسلمون لهذه الخطوات، وسيعترفون أنهم وحدهم ضعفاء، وأن أحداً لن يلتفت إليهم أو يهب لمساعدهم، فكثفت حكومة نتنياهو من إجراءاتها التهويدية للمسجد الأقصى، فسمحت للمستوطنين والمتدينين اليهود بالدخول إلى الحرم، والصلاة في باحاته، كما أذنت لعددٍ من النواب والوزراء بدخوله في مواكب استفزازية، واستعراضاتٍ عدائية، بصحبة المئات من رجال الشرطة، الذين كانوا يقومون بحمايتهم أثناء الاقتحام.
كما سمحت الشرطة الإسرائيلية لطلاب المدارس الدينية في الشطر الشرقي من مدينة القدس، وفي محيط المسجد الأقصى، باستفزاز الفلسطينيين والسخرية منهم والتهكم عليهم، والاعتداء عليهم بالضرب والإساءة، وشتموا الرسول الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم، وحاولوا إخراج المرابطين والمرابطات من الحرم بالقوة، وخلال ذلك أصابوا بعضهم بجراح، واعتقلوا آخرين، ومنع كل من هو دون الأربعين من الصلاة في المسجد، في محاولةٍ منهم لتخفيف الأزمة والسيطرة عليها، ومعتقدين أن الفلسطينيين عاجزين وخائفين، وأنهم يشعرون باليأس والإحباط، وأنهم سيقبلون بالواقع عجزاً، ولن يثوروا عليه رفضاً.
لكن الشباب الفلسطيني من الجنسين، من سكان مدينة القدس والضفة الغربية، لم يعجبهم الحال، ولم يرضوا عن هذا الواقع، فهبوا للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، بما لديهم من إمكانياتٍ بسيطة، فاستخدموا السكاكين في الرد على الإسرائيليين، وعمت ظاهرة السكاكين مناطق مختلفة من مدن الضفة الغربية، وشعر الإسرائيليون بخطورتها، وأنها ككرة الثلج تكبر يوماً بعد آخر، وأنها تلحق الضرر بهم، فهي توقع بينهم ضحايا، كما أنها تسبب لهم الرعب والهلع.
جاء رد الفعل الإسرائيلي قاسياً وموجعاً، واتخذت الحكومة سلسلة من الإجراءات والقرارات الرادعة التي ظن رئيسها أنها حاسمة، وأنها ستقضي على الأحداث، وستخنق الانتفاضة في مهدها، وستعيد الفلسطينيين مرةً أخرى إلى مربع اليأس القاتم، ودوائر العجز الذليل، وستجبرهم على القبول بما يطرحه، والموافقة على ما يعطيه، دونٍ مقاومةٍ واعتراض، أو ثورةٍ ورفض، إذ سمح بقتل الفلسطيني في الشارع، وإعدامه بدمٍ بارد، بشبهةٍ أو بغيرها، وبسببٍ أو بدونه، وأذن للمستوطنين بالقتل، وسمح لهم بقوة قانون الاحتلال بمزيدٍ من البغي والفساد، دون أي مساءلة أو عقاب، ولا اتهام لهم بالجريمة ولا وصف لعملياتهم بأنها إرهاب.
رغم كل هذه الإجراءات، فإن جيلاً فلسطينياً صاعداً، قوياً مؤمناً، شجاعاً لا يتردد، صلباً لا ينكسر، وعنيداً لا يلين، ذكياً لا يخدع، وواعياً لا يغرر به، ويقظاً لا يستغفل، قرر أن يمضي في خيارته، وأن يصل إلى غاياته، أياً كانت التضحيات والتحديات، ومهما بلغ حجم الدم المهراق، وعمق الجرح المكلوم، رافضاً خيارات التسوية المذلة، ومفاوضات السلام المهينة، ووعود الغرب الكاذبة، وضمانات العدو الزائفة، معتقداً بيقين أن هذه مسيرة شعب، وانتفاضة جيلٍ، وحركة أمة، تتطلع إلى الحرية والتحرير، فلا يهمها ما تلاقي، ولا يعنيها شدة ما تواجه.
إنها الانتفاضةُ، خيارُ ذات الشوكة، فيها معاناةٌ وألمٌ ، وحزنٌ ووجعٌ، وفقدٌ وخسارةٌ، وتضحيةٌ وعطاء، وفيها محنةٌ وفتنةٌ، ولكن خاتمتها دوماً خيرٌ، ومآلها فوزٌ، ونتيجتها نجاحٌ، ونهاية الشوط فيها سلامةٌ وأمان، والدم المهراق فيها يعبد الطريق، ويسوي المسار، ويصحح المسيرة، ويبقي على جذوة المقاومة متقدة، ونارها مشتعلة، والشهداء فيها مناراتٌ يضيئون الطريق، وينيرون الدرب، ونجومٌ في السماء يهدون السبيل، ويأخذون بالنواصي والأقدام إلى جادة الحق والصراط المستقيم، وأعلامٌ على الأرض وبين الناس، يذكرونهم ولا ينسونهم، ويحفظون فضلهم ولا يجحدون تضحياتهم، ولا ينكرون عطاءاتهم، إنها درب العظماء، وسبيل الكبار، قد سبق إليها الرسل والأنبياء، وسار على نهجهم المخلصون والشهداء.
[email protected]
أضف تعليق