نحو قبل عام من الآن، قامت شرطة الاحتلال بإغلاق جميع مداخل قرية العيساوية الرّئيسية والثّانوية، لمدّة أسبوعين تقريبًا، وتحدّدت شروط دخول وخروج السكّان وفقًا لمزاج الجنود على الحواجز.
في تلك الفترة، كنت قد بدأت سنتي الدّراسية الأخيرة في درجة الماجستير، وكنت في الأسبوع الاوّل وفي إحدى المحاضرات الأولى، كان علي أن أختار موضوع أطروحة الماجستير، وهنا، وقفتُ حائرة، قالت لي المُحاضرة أنهم يحاولون تسليط الضّوء على المجتمع الفلسطيني في القسم، واقترحت أن أختار موضوع يتعلّق في المجتمع الفلسطيني، لتعزيزه في الأكاديمية الإسرائيلية.
جرت المحاضَرة في غرفةٍ يطلّ شباكها على قرية العيساوية، ذكرتُ ما يجري في القرية من حصار وتفتيش وتنكيل وذلّ، وطبعًا، تبدلّت الوجوه وتغيّرت الملامح بعد أن سمعوا ما لا يرضيهم، وسألني أحدهم "أين تقع العيساوية؟" واعتذر عن سؤاله السّاذج وألقى بذلك اللّوم على نفسه على عدم متابعته الأخبار وبعده عن المنطقة، قابلتُ سؤاله بابتسامة، ظنّها تمجيدًا لسؤاله وعذره الذي أقبح منه، وما هي إلّا ابتسامة سخرية، وطمأنته أنّه لم يخسر شيئًا وأن ما يجري في العيساوية لا يصل الإعلام الإسرائيلي، فلا داعي للقلق والاعتذار، وقالت أخرى "نعم نعم أعرف القرية جيّدًا وأعرف أنها بؤرة لخلايا إرهابية"، ثمّ ابتسمتُ مرّة أخرى ابتسامة سخرية يكتاظها غيظً على هذه الوقاحة، وابتسمت هي الأخرى ظنًّا أنها أصابت، ما هذه الخلايا إلّا خلايا دماغها التي تغذّت على العنصرية والجهل والإرهاب، الإرهاب الإسرائيلي.
في نفس الغرفة، اخترت موضوع بحثي، اخترت أن أكتب عن العيساوية تحت الحصار وعن استخدام شبكات التّواصل الاجتماعي كوسيلة لكسر هذا الحصار، كنت أتابع صفحات التّواصل الاجتماعي عن كثب، وتواصلت مع أحد مديري صفحة "قرية العيساوية"، لكنّه لم ينبس بكلمة واحدة حتى تأكّد أني "منهم وفيهم".
تمّ تقديم فكرة عن موضوع البحث وقبوله كمقال في إحدى مجلّات الرّأي الأكاديمية في إحدى جامعات البرتغال، لا يمكنني وصف سعادتي حينها، فالحلم بدأ يتحقّق، باشرت في البحث والكتابة، أقرأ مقالات حينًا وأتصفّح صفحات الفيسبوك حينًا آخر، وبدأت محاصرتي من قبل مشرفتي على البحث، محاصرتي وتقييدي في انتقاء الكلمات، فهي لا تشرف على مواضيع سياسية بحت، وكلمة "احتلال" ما هي إلّا نقطة سوداء على صفحة الباحث، ولا يمكن أن نطلق على ما يجري في العيساوية كلمة حصار، كل ما في الأمر هو إغلاق جميع المداخل الرّئيسية والثّانوية للقرية، علينا التّدقيق والتّفصيل لأولئك الذين ينتظرون المقال في البرتغال. تعجّبت من كلامها، فأنا أعرفها "إسرائيلية جيّدة" قالت لي إحدى طالباتها، إن كنتِ تريدين أن تتقدّمي وتلمعي في مجال البحث، عليكِ أن "تلعبيها صح، عليكِ أن تتحرّكي ضمن قوانين اللّعبة"، عن أي لعبة تتحدّث؟ فأنا لا اتقّن قوانين الألعاب القذرة ولا تجسيد صورة "العربي الجيّد"، وضحكتُ ساخرة مرّة أخرى.
إذًا، هي أرادت أن تسلّط الضّوء على المجتمع الفلسطيني من منظورها، وأن تُري للعالم حُسن الأكاديمية الإسرائيلية ولطفها في فتح المجال أمام الطّالب الفلسطيني أن يبحث فيما يتعلّق في مجتمعه ويكتب ما يريد، وأنا أردتُ أن أكتب ما أريد، لا ما تريده مشرفتي ولا الأكاديمية الإسرائيلية، ليرى العالم العيساوية كمثال لما تعانيه الأحياء الفلسطينية في القدس الشّرقية، ليتعرّف على العيساوية المفصولة عن الأحياء الفلسطينية الأخرى والمحصورة بين مؤسسات ومشاريع اسرائيلية تقيّد تطورها، وتطلّ عليها قاعدتان عسكريتان ومكعّبات إسمنتيّة مؤقّته. وكما نعرف، في إسرائيل عامّة، والقدس خاصّة، المؤقّت هو الدّائم، هذا ما على العالم أن يعرفه، تمنيت ذلك وشئت لو، لكن قلمي ظلّ محاصرًا. وبعد ثلاثة شهور، قررت إنهاء اللّعبة، التي لم أبدأها أساسًا، تخلّيتُ عن المقال وعن البرتغال وعن المشرفة.
في هذه الأيّام، أشارف على الانتهاء من العمل على أطروحة الماجستير، في هذه الايّام، تشهد الأحياء الفلسطينية في القدس حصارًا. في هذه الأيّام، تحدّثني صديقتي التي تقطن في العيساوية عن معاناتها اليومية في الخروج من الحي والدّخول إليه، عن أزمة الحواجز، عن ساعات الانتظار الطّويلة، عن التّفيش والذّل ومزاجيّة الجنود، عن بكاء طفلها الذي سئم الانتظار ودفعها إلى أن تعود أدراجها إلى البيت بعد طول انتظار. في هذه الأيّام، تفتتح الجّامعة عامًا دراسيًّا جديدًا وتوزّع الورود والابتسامات العذبة على الطّلاب في مدخلها، ويوزّع الجنود الرّصاص والقنابل على سكّان العيساوية.
[email protected]
أضف تعليق