رغم مرور عشرة أعوام على دخولي قفص الحياة الجامعيّة إلاّ أنّي ما زلت أستذكر هذه التجربة الفريدة لحظة بلحظة، يمكن وصفها بأنًها عبارة عن مزيج من الإدراك وعدمه، خليط من التوقّع غير المتوقّع وعدم توقّع المتوقّع.
بعد أن كنت معتادًا طيلة 12 عامًا على نمط معين من الحياة الاتكاليّة في بعضها جاءت الجامعة لتقلب حياتي رأسًا على عقب، فمن اليوم أنا أتحدّى الصعاب لوحدي، للمرّة الأولى سأكون مسؤولًا عن نفسي بشكل كامل، بعيدًا عن الأهل والأصدقاء، بعيدًا عن المعلّمين الّذين اعتدت على التعامل معهم، عليّ التأقلم مع الغرباء وتكوين صداقات، عليّ إيجاد حلول لمشاكلي لوحدي، عليّ أن اطهو طعامي، أغسل ملابسي وأنظّف غرفتي، أحضّر وظائفي بلغة غريبة، كل ذلك لوحدي. يمكن القول أنّ عملية الانتقال من المرحلة الثانويّة إلى الجامعيّة مخيفة وممتعة في ذات الوقت.
بدأت الحيرة المرفقه بالصدمة والدهشة منذ يومي الأوًل، هممت باكرًا وجهًزتُ نفسي، لا أعلم ماذا عليّ أن ألبس، هل آخذ حقيبتي المدرسيّة أم "شنطة" جانبيًة، هل آخد الدفاتر والأقلام أم آخذ المواد جاهزة ومكتوبة؟
دخلت المحاضرة الأولى، أخرجت دفتري وقلمي، جلست جلسة أسدٍ ينتظر أن يفتح المحاضر فاهه كي أنقضّ على المادة لأكتبها وإذ بي بعد ٦ كلمات أسأل جاري "شو الكلمة إلّي قبلها؟"، لوّح لي بيده بمعنى "معنديش وقت إلك"، أتممت المحاضرة مستمعًا، وهكذا كانت المحاضرة الثانية والثالثة حتّى آخر اليوم.
قضيت اليوم الأوّل أترنّح بين شعور النعس واليأس، فأنا أجلس مستمعًا "كالأطرش بالزفّة" ومشاعر اليأس والإحباط بدأت تنتابني، عدت يومها إلى غرفتي وهاتفت أهلي وقلت لهم "بديش أتعلّم خلص".
انتهى اليوم الأول.
في أحد الأيّام الأولى قرّرت أن أطهو طعامي لوحدي فكنتُ قد جئت لسكني محمّلًا بكل أدوات المطبخ اللازمه "زي العروس إلّي مطلعه جهاز"، وضعت طنجرتي على الغاز ودخلت في حيرة، ماذا بعد؟
توجهت إلى الحل السحري "ألوو يمّا"، بعد محاولات متكرّرة وعقيمة لفهم كيفيًة تحضير الأرز، تركت الطنجرة وأسرعت إلى أقرب مطعم مأكولات سريعة، فالشوارما والفلافل والبيتسا هم رفاق درب الطالب الصادقين.
زادت قلّة الحيلة ومشاعر الإحباط وعدم الرغبة في إكمال التعليم، لكن كان هناك دائمًا عائلتي يعطونني جرعة من الأمل والإيجابيّة.
تأجّجت مشاعر الصدمة عندما كنت أجلس جانبًا في إحدى الاستراحات بين المحاضرة والأخرى حيث دار نقاش بين زملائي في التعليم عن موضوع المحاضرة وباللغة العبريّة، سألوني عن رأيي، بعد الصدمة والصفنة كان ردّي "أني هوليخ لشيروتيم - أنا ذاهب إلى الحمام"، كنت أتهرّب من المحادثات المطوّلة وكانت "عبرانيّتي" تكفيني لشراء القهوة أو الساندويش وفي أحسن الأحوال الحديث عن كرة القدم أو المأكولات العربيّة مع أولاد صفّي.
كان عام 2006 عام العدوان على لبنان عامي الجامعي الأوّل، كان الجو ملتهبًا بين الطلّاب العرب والإسرائيليّين، في كل زاوية من الجامعة دارت نقاشات وتطايرت النظرات الخائفة والحاقدة من كل شيء عربي يتحرّك، أسئلة محرجة يوجّهها الإسرائيلي إليّ كأنّني متقدّم لامتحان لكن هذه المرّة الأسئلة بصيغة تحقيقيّة تفحص مدى "الولاء" وكم أنت عربي جيّد!
مظاهرات أقيمت على مداخل الجامعة الرئيسيّة ورحت أتساءل حينها هل عليّ أن أشارك أم لا أشارك كما أوصاني محيطي؟ عقلي وقلبي يدفعانني للمشاركة والصراخ بأعلى صوتي مدافعًا عن أبناء شعبي المعتدى عليهم لكن مخاوفًا تمّ تحميلي إيّاها وهواجسًا مثل "المستقبل والراتب والخوف على النفس" حالت بيني وبين المشاركة.
في النهاية – فطرة الانتماء انتصرت على هواجس القلق والخوف فشاركت وهتفت وناقشت من دون خوف ولا وجل.
نعم إنّها الصدمة الأولى من كل شيءٍ جديد، فأنتَ محمّل بالآمال والأحلام، مدجًج بالتوقّعات والمخاوف وأنتَ تعلم جيّدًا أنّ لا مكان للتراجع ولا مكان للاستسلام، لا مكان لليأس والإحباط فكل العقبات ستذلًل وكل المصاعب ستجد لها حلًا، المطلوب هو التحدًي والتأقلم، إيجاد الحلول والمثابرة، التيقّن أنّك أمام تجربة جديدة فيها تنتقل من الحاضنة الاجتماعيًة في البيت والمدرسة إلى مملكتك الخاصّة الّتي عليك بناؤها بحذر وعزم وإصرار وبمسؤوليّة وطنيّة عالية.
ما عرضته أعلاه هو جزء بسيط من التحدًيات الصعبة/ المضحكة والغير مبالغ فيها الًتي تواجه الطالب العربي على وجه الخصوص، وليس الهدف من عرضها زرع الخوف واليأس إنّما على العكس تمامًا، هدفي زرع الأمل وأهميًة توقّع غير المتوقّع وتذويت مفاهيم التحدّي وضرورة مواجهة الصعاب وعدم الاستسلام لأيّ عائق، لكل مشكلة مخرج، المطلوب هو الاجتهاد من أجل الوصول لهذا المخرج أو الحل.
سأعرض في مقالي القادم بعض النصائح والحلول للمشاكل الّتي ذكرتها أعلاه إضافة إلى حلول لمشاكل أخرى قد تواجه الطالب العربي في الجامعات والكلّيّا
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
كل الاحترام ..الارادة والاصرار سر النجاح