لقد شاهدت مؤخراً عملاً مسرحياً دمج بين عدة أساليب مسرحية ودرامية فيها شيء سينمائي قوي الحضور, حتى شملت التعبير الدرامي الكلاسيكي, الحركة المسرحية الفلسطينية من ذكريات الجيل الأول للمسرح, وأبرز ما كان فيها هو أسلوب الدمج بين الإيماء(البنتوميما) والنص المسرحي التراجيدي.. لا مكان للتردد بالشعور والأحاسيس, لأن الإنسان عندما ينفعل بسبب شيء ما, من الطبيعي أن ينتج عن ذلك شعور حقيقي وإحساس فعلي صادق في اللحظة ذاتها, أي أن الشعور لا يحتاج للكلام كي يكون موجوداً وحقيقياً فهذا التفكير المنطقي والسليم, لكننا نقول أن الكلمة تزيد المشهد عمقاً حسياً إذا كانت بالتوقيت المناسب وجزء من موضع تشغل فيه حيزاً مناسباً لها وإلا فلا.. لا يكون المشهد المعروض كافياً ليحرك إحساس المتفرج ومشاعر خاصة تعطيه الفرصة للتقرب من الفكرة والشخصيات ورسالة العمل, لأنه في هذه الحالة ستصبح الكلمة عبئاً على العمل وتثقل على الدراما الإنسانية الخالصة, وهنا نعود للعنوان ونقول "الفن الفلسطيني يعشق الصمت..".
مسرحية "رجال في الشمس" هي العمل المسرحي الأخير الذي ذهبت لمشاهدته, ولم يكن هدفي أن أشاهد جميع العمل وأكتب عنه بالتحديد, لكن العمل أثار القريحة وكانت البغية أن أكتب عن الأسلوب الفني الذي أثار اهتمامي, "إيماء ومسرح" داخل مسرحية شاهدتها عدة مرات من قبل وشاهدت هذا النص في السينما والرقص التعبيري أيضاً, من خلال قوالب درامية مختلفة وبإنتاجات عديدة, لكن هذه المرة كانت مختلفة لأن العمل كان مع سعيد سلامه الممثل والكاتب الفلسطيني الذي "يعشق الصمت".. أتابع عمل سعيد سلامة منذ كنت صغير السن, وحسب رأيي يعمل سلامه منذ سنوات عديدة كي تبقى الكلمة شيء ثانوي, لا أقصد أقل أهمية من الحركة أو التعبير الحسي, لكن شيء يستخدم حين تعجز الحركة أو النظرات والأحاسيس التي يضعها الممثل على المنصة أو أمام الجمهور.
لن أقارن سلامه بفنانين عالميين أو عرب إتبعوا أسلوب الإيماء والتمثيل الصامت لسبب واحد, لأنه لا مكان لهذه المقارنة فهو يعمل كمشروع وليس كممثل, ما أقصده أن حبه لتغييب الكلمة وتجريد الحركات والإحساس من النص المحكي تزيد عمله عمقاً, فهذا ما يفعله كأنه يعيش حالة تحليل للغة ويحاول من خلال فهم النص بناء الدراما والحركة وليس بناء العمل وبعدها إسقاط النص والكلمات عليه, وهذا ما يجعله مميزاً برأيي, لأنه لا يستسلم للكلمة ولا يكون كسولاً تجاه النص ليخفف على نفسه من عناء العمل المسرحي قليل الكلام.
الإيماء أو البنتوميما هو فن قريب الى قلبي بسبب بعض الفنانين العالميين مثل شابلين, لويس, مارسو, الفنان المصري محمد صبحي وغيرهم, ليس شرطاً أن يكون الإيماء عملاً كاملاً فمن الممكن أن يكون بشكل بسيط وقليل داخل المشهد السينمائي أو المسرحي فيسمى إيماء أو تمثيل تعبيري بالإشارات, من تشبيه وتجسيم الأشياء من حولك بالإضافة الى التعبير الحسي من حزن الذي يأتي بقوة عادةً مع الإيقاع البطيء للمشهد الإيمائي, والكوميديا الصامتة التي تأتي غالباً مع الإيقاع السريع والمبالغ به للمشهد الإيمائي.
كما قلت لا يهم إذا كان المشهد الصامت قصيراً أو طويلاً, فيه نظرات أو إشارات بالجوارح أو فيه أصوات وموسيقى, فهذا ما يفعله سعيد سلامه في عمله ونشاهد ذلك بقوة في مسرحية رجال في الشمس التي كانت سبباً لتحليل أسلوب سلامة, فنرى باقي الممثلين يعملون في "دفيئة" درامية صامته وتحت رؤية سلامه نفسه التي أعرفها منذ سنوات, ففيها الهدوء قبل الفعل على المنصة وفيها الصمت قبل الحوار.. حركة سلامة التي تمثل أسلوبه من خلال "مدرسته" كانت تعبيرية تذكرني دائماً بشخصية "المهرج" ولا أقصد هنا المهرج الفكاهي المضحك الذي يتجول لأغراض ترفيهية, بل المهرج الإنسان الذي يحمل كم هائل من الذكريات والصراعات الشخصية والتناقضات الإنسانية والتساؤلات الفلسفية وأشياء كثيرة أخرى لكنه أولاً يحمل الحب العميق وهكذا هو سلامة فتنظر الى عينيه المعبرتان.. ثم تعود الى فمه لترى ما تقول عيناه لكن صمته عنيد ورقيق.. صمت ذي ثقل فني وزخم إنساني.
لن أبالغ إذا قلت أن سلامه كان من الرائدين في التعامل مع اللغة والكلمة, فصلها وإتصالها, لكن ذلك لا يعني أنه أخرج لغته العربية من ذاته بل على العكس, لديه إحساس قوي بها وبقدرتها التعبيرية, لذلك يحتفظ بها داخل "الإنسان العربي الفلسطيني الصامت" ولن أنهي المقال بكلمات إطراء مبالغ بها أو تتجاوز ما يستحق الفنان سعيد سلامة.. لا شك أن تاريخ الفن الفلسطيني سيذكره يوماً بشكل بارز وخاص.. لا أعرف ما هي تلك النظرات التي أراها حين ينظر الى داخل عدسة الكاميرا.. لا أعرف ما هي تلك النظرات التي ينظر بها الى من على المنصة الى الجمهور وكأن عيناه تبحثان عن شيء ما مهم.. لا أعرف ما هي تلك الحركات المضحكة الممزوجة بالحزن العميق.. لا أعرف ما هي تلك الحركات الشكسبيرية التراجيدية الممزوجة ب "بسمة عتيقة".. لا أعرف ما هي تلك "البسمة العتيقة" لأنني مشغول بالهدوء الفني لديه.. لا أعرف من هو سعيد سلامة لكنني أعرف أنني أعشق من يعشق الصمت.. أعشق السينما الصامتة لأنها الأصل.. أعشق الفن الفلسطيني لأنه من الأرض.. وأعشق سعيد سلامة لأنه مرتبط بالأرض لكنه يطير في الفضاء محلقاً.. مبتسماً بإتزان.. وفلسطينياً صامتاً..
[email protected]
أضف تعليق