كنت حينها في الثالثة عشر من عمري، أجلس أمام التلفاز وأتابع مجريات الأحداث بلهفة وقلق، شابّ يانع محبّ لوطنه، مناصرٌ لأبناء جلدته في معركة الأحرار أمام الأشرار لكنّه لا يعرف السبب، تشحنه مناظر الأعلام والوجوه الملثّمة، حجارة الكرامة ومقاليع المقهورين بدون المرور بمدارس الفكر والتنظير، إنها مشاعر الفطرة.
في اليومين الأخيرين كلّ المجالس تحدّثت بقلق ورهبه عن شرارة الانتفاضة المرتقبة مستذكرين الانتفاضة الأولى، خائفين لكنّهم عازمين، لم أفهم شيئًا، أتفاعل مع الحديث من دون درايه، أدندن بحماسه: "لقد نادى المنادي الصهيوني أشد الأعادي، ما عاد بيها، عليّ أن أشدّ الزنادي"، تترجمت الأحداث في مخيّلتي كأنّنا في صدد معركة استرداد أرض فلسطين من اليهود، ففرحت.
أذكر جيّدًا مشهد دخول المأفون "أريئيل شارون" إلى باحات المسجد الأقصى المبارك محاطًا بأفراد الشرطة والجيش كان ذلك يشبه دخول لصٍّ ماكر قذر إلى بيتٍ ليس له فتنهال عليه الكراسي والعصي وكل ما تيسّر من أغراض بسواعد المرابطين وأشاوس القدس وكلّ من تواجد هناك من أجل حماية المسجد، معلنين أنّ الأقصى لن يُداس ولن يدنّس حتّى لو كلّف ذلك الأجساد والأرواح، كان ذلك بمثابة إذعان الحرب على الفلسطينيّين عامّة وانتقال الاحتجاجات من القدس ومناطق أل ٦٧ لتشمل مدن وقرى الداخل الفلسطيني.
هزّت هذه المشاهد كينونتي وتدفّق الأدرينالين في عروقي دون القدرة على كبح جماحه، اجتاحني الحماس ربّما هو الانتماء، لا أدري، سمعت أنّ هناك احتجاجات ومواجهات دائرة، قفزت حينها وقلت لوالدي: "بدي أنزل أقاتل، بدنا نحرّرها".
لم أنكشف من قبل على معاني الوطنيّة والعلم الفلسطيني ولم أفقه لماذا علينا الاحتجاج وما هي أهمّيّة المواجهه وماذا تعني عروبتي وأين موقع فلسطينيّتي في كلّ هذا، سرعان ما تبعثرتُ بين هذه الأسئلة الّتي أحاطتني من كلّ حدبٍ وصوب ولم أعرف الإجابة عنها، ردّ أبي حينها:
"الوضع بطمّنش، تطلعش من البيت".
تابعت الأحداث عبر التلفاز والأنباء عن الشهداء توالت، ١٣ شهيدًا حصيلة أوّل يومين من الاحتجاجات، الإصابات كثيرة والاعتقالات عديدة، مشاهد الدماء والأشلاء، الغاز والبصل، الرصاص والغبار، السواعد المفتولة والضفائر المجدولة، الإطارات المشتعلة والحناجر الهدّارة، شهيدٌ مقنوص في الصدر، في العين، في الراس، رصاصات تختار معاقل الموت، اخرٌ مغدور تحت شجرة من دون ذنب ولا عبقه ودرةٌ أسمه محمد متلحف بحنان الأرض لم تسعفه طفولته ولا صراخ الوالد، مشاهد التشييع والمظاهرات الغفيرة، جنازات تعمّ البلاد، جنازة تُلاقي جنازة، وجوه الشهداء المكشوفه والجثامين الملفوفة, أكفانها أعلام الوطن، بكاء الأمّ وحرقة الأخت، حسرة الأب وقهر الأخ وغضب المشيّعين، كلّها مشاهد جلجلت فرائسي وخلخلت حواسي، أدخلتني في دوّامة رحتُ أترنّح فيها بين التفاعل والتأثّر والغضب.
رغم الألم ازداد تمسّكي بفلسطينيّتي الّتي كانت مكبّله حتّى يوم ذاك بقيود الخوف وسلاسل الجهل، ازدادت الأسئله أكثر وأكثر، اعترتني مشاعر خوف قابلتها مشاعر فخر مختومة بالحيرة والرغبة في أن اكون جزءًا من هذا الصراع.
مشاهد البسالة والجسارة والاستعداد لفداء النفس أمام عنجهيّة وإرهاب الشرطة شكّلت عندي هواجس وتساؤلات عن معاني التضحية، عن قوة الإيمان بالمبدأ وإمكانيّة الاعتقال أو الإصابة فداءً للقضيّة، هم يدافعون عنّي فكيف لي أن لا أهبّ للدفاع عنهم وعنك.
في الذكرى الخامسة عشر للانتفاضة شريط طويل من الذكريات يمر أمامي حين أغمض عيني لأُبصر فلسطين، ألمٌّ ممزوج بأمل وتضحيات بحجم الوطن ليلٌ يعقبه نهار وفجرٌّ قريب للحرية وفي قرارة النفس حزنٌ بطعم الشموخ.
أحداث الانتفاضة الثانية كانت البادرة الحقيقيّة لبداية تشكيل الوعي السياسي والوطني عندي، أيقنت واجب الوطن فبدماء الشهداء الزكيّة كان لنا الحاضر، لذلك من واجبنا الحفاظ والدفاع عن الأمانة من أجل بناء المستقبل.
رحم الله شهداءَنا الأبرار.
[email protected]
أضف تعليق