تحل في الثامن والعشرين من سبتمبر الجاري الذكرى السنوية الـ 45 لرحيل أهم شخصية عربية في النصف الثاني من القرن العشرين، القائد "الريس" جمال عبد الناصر الذي لعب دورا رئيسا في حياة أمتنا العربية من المحيط الى الخليج على مدار عقدين من الزمن، وبقي أثر عمله، وانعكاس سياسته، وانتشار نهجه وأفكاره راسخا وقويا حتى يومنا هذا.
ورغم كل محاولات التغييب وماكينات الاعلام المعادية والحاقدة، ورغم سياسة التعتيم من ناحية والتضييقات على الناصريين والقوميين، قامت قوى وتنظيمات ناصرية في معظم أرجاء الوطن العربي، تصون وتنشر فكر عبد الناصر من منظورها. وصدرت عشرات الكتب والدراسات، والآف المقالات والمقابلات الصحفية التي تناولت عبد الناصر وفكره وتأثيره على العرب والعالم. عبد الناصر الذي حمل القضية الفلسطينية في المحافل الدولية ورفعها من مرتبة قضية لاجئين الى قضية شعب صاحب حقوق مشروعة، عبد الناصر الذي اعتبر بأن الثورة الفلسطينية من أنبل الثورات مؤكدا على حقها في الحياة وقدم لها أشكال الدعم المختلفة، عبد الناصر القائد الذي أهمل صحته وترك مكان راحته ليسرع في ايقاف نزيف الدم الفلسطيني والعربي في الأردن، في محاولة منه للسباق مع الزمن، فأصيب بنزيف شخصي حاد بعد الارهاق الشديد الذي تعرض له، بعدما وضع اللبنة الأولى لايقاف النزيف العربي، وسقط شهيد الواجب، شهيد الدفاع عن الدم الفلسطيني والقضية الفلسطينية، لذا وجب على الشعب الفلسطيني أن يكرمه، واذا قالت شاعرتنا الراحلة فدوى طوقان يوم وفاته " نحن أولى بالرثاء"، نقولها اليوم "نحن أولى باحياء الذكرى".
وعندما نتحدث عن عبد الناصر وعصره ونهجه، لا نتحدث عن أمر مضى وولى، أو بات في غياهب التاريخ، انما نتحدث عن واقع وحلم في آن واحد، نتحدث عن طريق حياة ومستقبل مشرق، نتحدث عن تراث وطموح في ذات الوقت.
وبما أن الموضوع الديني لعب ويلعب دورا مركزيا في حياة الشعب العربي، وبما أنه يجري مؤخرا التلاعب بالدين واستغلاله أبشع استغلال لغايات ومقاصد سياسية ضيقة ومشبوهة، من بعض التنظيمات المتطرفة والمربوطة بأجندة خارجية، فلا بد وأن نشير بعجالة لنظرة القومية للحرية الدينية والانتماء الديني، على النحو الذي عكسه عبد الناصر في خطبه ومواقفه وممارسته على أرض الواقع.
لقد شهد أحمد حمروش في الجزء الثاني من كتابه "قصة ثورة 23 يوليو" على أن موقف رجال قيادة الثورة كان حريصا على الجمع بين عقيدة الدين وارادة التطور في وقت واحد معا.
وهذا ما أكده عبد الناصر في "الميثاق" حين قال: "إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة، وإنما ينتج التصادم فى بعض الظروف من محاولات الرجعية، أن تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم، وذلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته الإلهية السامية، لقد كانت جميع الأديان ذات رسالة تقدمية، ولكن الرجعية التى أرادت احتكار خيرات الأرض لمصالحها وحدها أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين، وراحت تلتمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكي توقف تيار التقدم".
ورأى القائد جمال عبد الناصر في التلاحم الاسلامي – المسيحي صونا للوطن وضمانة لوحدته الداخلية، وصموده بالتالي أمام المؤامرات والعدوان عليه، لذا اتسمت فترة حكم عبد الناصر لمصر بالعلاقات الأخوية بين المسلمين والمسيحيين، وآزر عبد الناصر الكنيسة في مصر، ورعى مؤسسة الأزهر وعمل على تطويرها، وحرص على بناء علاقات سليمة وطبيعية بين أبناء الوطن الواحد والقومية الواحدة، الى حد أنه لم تسجل حادثة طائفية واحدة في عهده.
ولم يكن غريبا أن يقول البابا كيرلس السادس، بعد وفاة عبد الناصر: "لقد صنع في عشرين سنة من تاريخنا ما لم يصنعه أحد من قبله في قرون، وسيظل تاريخ مصر والأمة العربية الى عشرات الأجيال مرتبطا باسم البطل المناضل".
اليوم في ظل انهيار كل القيم الانسانية والقومية والدينية في الدول العربية.. كيف لا نترحم على أيام عبد الناصر، كيف لا نشتاق لأيام القومية العربية التي جمعت في أحضانها كل أبناء الوطن العربي دون تفرقة على أساس ديني أو طائفي. بل أن القومية احترمت الأديان والانتماءات الدينية وجعلتها تتعايش جنبا الى جنب بسلام ووئام، فتعانق الهلال والصليب وارتفع الآذان بجوار رنين الأجراس وسار الشيخ الى جانب الكاهن في المظاهرات والمناسبات الوطنية وساد الشعار الخالد "الدين لله والوطن للجميع".
في عهد عبد الناصر كنا نردد في الأغاني الوطنية "تعانقنا هلالا وصليبا" و "أحلف بقرآني وانجيلي" واليوم ينادي أتباع الشرذمة والعصبيات القبلية والعشائرية بمحاربة "أهل الذمة" وطردهم وملاحقتهم، ونبذ كل من لا يسير وراءهم سواء كان مسلما أم مسيحيا أم ازيديا أم كرديا أم .. في عهد عبد الناصر كنا نهتف باعتزاز وكبرياء "الله أكبر" في الأناشيد الوطنية والمظاهرات، حين كانت هتاف " الله أكبر" يرمز للعزة والكرامة، لمقاومة التخلف ودحر العدوان، لمحاربة الاستعمار والصهيونية، كنا مسيحيين ومسلمين نغني "الله وأكبر فوق كيد المعتدي". لكن اليوم بتنا نتوارى خجلا من ترداد هتاف "الله أكبر" بعدما بات شعارا للارهاب والقتل وسفك الدماء، بات هتافا مقرونا بالدم والذبح والاساءة للاسلام وتشويه صورته في أرجاء المعمورة.. فهل هذا هو النموذج الذي نريده ونصبو اليه.. هل هذا هو "العربي الجديد" الذي نبحث عنه، العربي المقهور، المنبوذ، الذليل أم أننا نريد العربي مرفوع الرأس، موفور الكرامة بقوميته وعروبته، التي رفرفت في سماء الوطن العربي الواحد تحت راية الرئيس والزعيم القومي جمال عبد الناصر.
(شفاعمرو – الجليل)
[email protected]
أضف تعليق