بداية هذا المشهد فى شهر سبتمبر 2015 (يومي 5 و7 تحديدًا)، حيث يلقى القبض على نائب برلمانى سابق (المحامي حمدى الفخراني) فى إحدى قضايا الرشوة المرفوعة من قبل بعض خصومه فى إحدى القضايا. بعدها بيومين يلقى القبض على أحد وزراء المنقلب (وزير الزراعة) في مشهد مثير للغاية ربما هو الأول فى تاريخ مصر الحديث من حيث السرعة في القبض على الرجل أو في طريقة إراج القضية؛ الأمر الذي شوش عليها بشكّل لم يعد يعرف فيه هل هذا الرجل فاسد يتم معاقبته على فساده أم على محاربته للفساد أم على محاولته كفاسد إبتزاز الفاسدين الكبار بعد فوحان رائحته كما يقولون.

بدأ الغموض عندما صرح الوزير (6 سبتمبر) أي قبل القبض عليه بيوم واحد بأنه سيكشف عن قضايا فساد كبيرة تتعلق بآلاف الأفدنة الزراعية التي استولى عليها رجال أعمال موجودين بأسعار زهيدة، ثم قاموا بتغيير نشاطها إلى عقاري، فشيدوا القرى السياحية العملاقة على الطرق الصحرواية، وأشار الرجل في مداخلة تليفونية مع لميس الحديدي، بأنه سيكشف عن هذه القضايا غدًا (أي 7 سبتمبر).

في نفس اليوم (6 سبتمبر) أجرى رجل الأعمال سليمان عامر صاحب قرية السليمانية السياحية مداخلة تلفونية مع الإعلامي سيد على، يهاجم فيها وزير الرزاعة ويتهمه بالترصد له من أجل إجباره على دفع مليارات الجنيهات نظير تغيير نشاط الأرض التي بنيت عليها قرية السليمانية، ثم تابع عامر بأن مخالفته لا تتعدى 30 فدان وأنه على استعداد لدفع ثمنهم المقدر بنحو (10 مليون جنيه)، بينما الوزير يتحدث عن آلاف الأفدنة الأخرى التي أخذها عامر منذ التسعينيات.

فى اليوم التالي (7 سبتمبر) تنشر كافة الصحف أخبارًا عن تورط وزير الزراعة وعدد من الوزراء الأخرين في قضية فساد كبرى بوزارة الزراعة تتعلق بتسهيل الوزير إجراءات الاستيلاء على أراضي لصالح أحد رجال الأعمال المغمورين مقابل رشوة بملايين الجنيهات. يذهب الرجل إلى مقر رئاسة الوزراء ليقدم استقالته لرئيس الوزراء ابراهيم محلب، وما أن يخرج من عنده حتى يتم تعقبه بسيارات الأمن ليلقى القبض عليه بعد دقائق في ميدان التحرير في مشهد دراماتيكي للغاية لم يحدث في تاريخ مصر الحديث، وكأن المراد ألا يصل الرجل إلى أى مكان سواء مكتبه أو بيته.

بعد القاء القبض على الرجل، يصدر مكتب النائب العام بيانًا يحدد الجناة في أربعة أشخاص تحديدًا، الوزير ومدير مكتبه ورجل الأعمال المغمور وأحد الصحفيين، دون أن يذكر أي وزراء آخرين كما أشيع على صفحات كل الجرائد، ثم يختم البيان بقرار حظر النشر في القضية. ثم تتوالى تعليقات الحكومة ورئيس الوزراء “لن نسكت على الفساد تحت أى مسمى”. ثم يعلق الجنرال “والله لن أسمح بجنيه ورق واحد يتسرق من مصر تاني”، فيعلق الناس عليه ساخرين من استخفافه بالعقول “ماهو مفيش جنيهات ورق أصلًا” .

يشاء السميع العليم أن يفضحهم على رؤوس الأشهاد فى تونس الخضراء (9 سبتمبر ) أي بعدها بيومين، حينما قام محلب بالانسحاب في شكل “هروب” من مؤتمر صحفى مشترك مع نظيره التونسي، تهربًا من الإجابة على سؤال أحد الصحفيين التونسيين بخصوص تورطه شخصيًا في قضية القصور الرئاسية المتهم فيها مبارك أولاده.

كان هذا هو مسار القضية التي أعلنوا عنها ،مليئة بالتناقضات والإثارة ، لا يعرف هل هي قضية فساد أما ماذا ؟،وهل الرجل فاسد أم لا ؟،وهل كان يحارب الفساد؟ ،أم كان فاسدا صغيرا فاحت رائحته فأراد ابتزار من هو أكبر منه من الفاسدين؟، فتم التضحية به لتجرؤه على التفكير فى الصدام معهم أو لمحاولته التربح منفردا دون الاقتسام مع غيره؟، خاصة وأن فساده يتعلق بملف الأراضى ،أكبر ملف فساد فى مصر منذ عقود والذى يقدر بأكثر من 200 مليار جنيه وفقا لتقارير الجهاز المركزي للمحاسبات.خاصة أن هذا الملف ذاته ليس بعيدا عن بعض جنرالات القوات المسلحة.

لم تدخل هذا القضية على ذوى العقول التى ترى سياسات الجنرال مع الفاسدين الكبار خلال عامين من انقلابه فى 3 يوليو 2013، وحتى تاريخ القضية فى (سبتمبر 2015)،ففى عهده خرج كل اللصوص من السجون وتم تبرئتهم فى كل قضايا الفساد التى تصل قيمتها مليارات الجنيهات ،بدءا بمبارك وأولاده والعادلى ورجاله وأحمد عز وعصابته ،وأنس الفقى وشلته ،وأحمد نظيف وحاشيته ،والمغربى وجرانة ومافيا الأراضى والإسكان ،لم يكن ذلك مصادفة.

وفى عهده تم رد مليارى جنيه إلى ناصيف ساويرس فى القضية المعروفة بالتهرب الضريبى بقيمة 14 مليار جنيه ،والتى تم تسويتها فى عهد الرئيس مرسى ،ليوافق الرجل على دفع نصف المبلع 7 مليار جنيه ،منهم (2 مليار جنيه مقدم والباقى على خمس سنوات كل سنة بمليار جنيه ).ما إن تم الانقلاب على مرسى حتى أعلن الرجل تمرده على الاتفاق وعزمه عدم دفع القسط الأول ،بحجة أنه تم اضطهاده من قبل لكونه مسيحيا ،مطالبا باسترداد ما دفعه مهددا بعدم الاستثمار فى مصر مجددا وربما سحب استثماراته القائمة.

يشكل المنقلب لجنة خاصة لعائلة ساويرس ،تنتهى إلى أن الرجل لم يكن متهربا فى الأصل وأن ما قام به من تسوية سابقة لم يكن صحيحا رغم موافقته عليها ،ثم تقرر رد ال2 مليار جنيه إليه مرة أخرى وسقوط الأقساط الاخرى ،فيقرر الرجل أن يجامل المنقلب فيتبرع بالمبلغ إلى صندوق تحيا مصر فى مسرحية مكشوفة حتى لمؤيدى الجنرال.

ذهب المنقلب بعيدا وأصدر عدد من القرارات المشرعنة للفساد فى أقصى صوره فجاجة،الأول خاص بقانون المناقصات بالأمر المباشر ( 12 سبتمبر 2013 ) حيث أجرى تعديلا بالقانون يحرر الهئيات الحكومية من التقيد بإجراءات المزايدات والمناقصات فى عمليات البيع والشراء،وهذا القانون يفتح الباب للفساد ويقتل المنافسة ويضيع على المؤسسات الحكومية فرص مختلفة فى تلقى عروض أعلى أو أقل لتنفيذ مشروعاتها. المفارق أن أحكام الإدارية العليا والقضاء الإدارى السابقة قد استقرت على رفض قانون الامر المباشر منذ صدور حكم بطلان عقد «مدينتى» عام 2010 .وكان السبب الرئيسى لأحكام بطلان عقود بيع الأراضى بالأمر المباشر للأغراض السكنية أو الزراعية أو السياحية هو عدم اتباع الإجراءات المقررة فى هذا القانون، بإجراء مزايدة علنية شفافة على الأراضى محل البيع، باعتبار أن قانون المزايدات هو الشريعة الحاكمة الوحيدة لبيع أراضى وممتلكات الدولة، ويعلو فوق القوانين الخاصة لهذه الهيئات.

من هذا الباب دخل الجيش على إلى عالم الاقتصاد وصار متحكما فى كل المشروعات القائمة تقريبا فى كل المجالات دون رقيب أو حسيب ،علما بأن مؤسسات الجيش الاقتصادية لا تخضع للرقابة من أى جهة ادراية أو حكومية أو برلمانية .دخلت مؤسسات الجيش الاقتصادية(الهئية الهندسية-جهاز مشروعات الخدمة الوطنية- الهئية العربية للتصنيع –وزارة الانتاج الحربى ) إلى كل المجالات بالأمر المباشر ،بدءا من العقارات والأراضى والبنية التحتية ،وحتى الإسكان والكباىر والطرق والموانىء وانتهاء بالمواد الغذائية ،وعلى رأس كل ذلك يأتى ملف الأراضى الذى يعد حكراا عليهم لا يغادرهم وصرنا نشهد عبارة عجيبة “أرض ملك للقوات المسلحة” ،وتصدر بالمناسبة إعلانات فى الصحف من “جهاز مشروعات أراضى القوات المسلحة عن بيع بالمزاد العلنى .

القرار الثانى خاص بتعديل قانون الإستثمار فيما عرف بقانون تحصين عقود المستثمرين ( 22 ابريل 2014 ).بمقتضاه يلغى حق المواطنين فى متابعة أموالهم العامة حيث يمنعهم من الطعن على عقود الاستثمار المبرمة بين الدولة والمستثمرين .وأما التعديل الثالث فيتخص بقانون الكسب غير المشروع (23 اغسطس 2015 ) فيما عرف قانون ” التصالح مع الفاسدين “،حيث أضيف مادة بقبول التصالح مع الفاسدين شريطة بأن يرد كل ما تكسبه من أموال غير مشروعة،وهو ما يفتح الباب صراحة إلى السرقة من المال العام بكل شجاعة.

كانت هذه سياسات المنقلب تجاه الأموال العامة،يفتح الباب للجيش على مصرعيه للدخول الى عالم الاقتصاد،من خلال قانون المناقصات بالامر المباشر ،الذى يعفى مؤسسات الجيش من الدخول فى منافسة مع الآخرين ،ثم يحصن العقود التى تبرمها الدولة مع أى مستثمر من الطعن إلا من أطرافها (الدولة والمستثمر) ويحرم المواطن من حقه الطبيعى فى متابعة أمواله ،ثم يقرر التصالح مع الفاسدين إذا فاحت رائحتهم ،من خلال قانون التصالح الذى لا يعنى للفاسد سوى ” اسرق بس رتب امورك كويس ” ” “بس وحياة أبوك متنساناش”.

يأتى المنقلب بعد ذلك ليدلى بتصريح آخر عجيب ، خاصة بعد أن نُصب مولد مكافحة الفساد و”أن هذا الرجل لن يسكت على فاسد أو فساد ببساطة لأنه لم يعد هناك شيئا يأخذونه “لهذا كله لم تدخل قضية وزير الزراعة ولا النائب حمدى الفخرانى على ذوى الألباب التى تسمع وترى الفساد بعينه ولحمه وشحمه مغتصبا لأعلى سلطة فى البلاد ،حاميًا لأكبر “حرامييها” ،بكل السبل ومن كل طريق ولكن وفق نظرية “الكلينكس” والتخلص من البعض على طريقته ،ونظرية مكافحة الفساد فساد لتصفية حسابات فى إطار صراع المصالح الدنيئة ،ينفرج الستار عن مشهد مولد مكافحة الفساد فى لعبة الشعب توشى وكأنه يصلح أو يواجه فساد ،والحقيقة الكبرى الماضية “إن الله لا يصلح عمل المفسدين” ،فهل وصلت الرسالة؟ .

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]