إن تأجيل المجلس الوطني يوفر فرصة يجب اغتنامها لإنقاذ القضية الفلسطينية من المخاطر الجسيمة التي تتهددها، فإذا استغلت الفترة الفاصلة ما بين التأجيل وما بين عقد المجلس القادم استغلالا مناسبا ستفتح صفحة جديدة في التاريخ الفلسطيني، وذلك من خلال تشكيل لجنة تحضيرية بمشاركة الأمناء العامين للفصائل وشخصيات وطنية وممثلين عن مختلف التجمعات، بما في ذلك نسبة تمثيل جيدة عن المرأة والشباب، أو اعتبار الإطار القيادي المؤقت هو بمثابة لجنة تحضيرية مع توسيعه ببعض الأعضاء ليعكس مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، لتقوم هذا اللجنة بإجراء مراجعة شاملة للتجارب الفلسطينية وتقييمها واستخلاص الدروس والعبر، ووضع إستراتيجية موحدة قادرة على إنجاز الانتصار.
نبدأ بالحديث عن الأسباب التي أدت إلى قرار التأجيل، ويمكن إجمالها بأن القرار المتسرع والمرتبك بعقد جلسة غير عادية أدى إلى اهتزازات عنيفة في مختلف فصائل ومكونات الحركة الوطنية، خصوصا حركة فتح، إذ أدت هذه «الشلفقة» إلى نوع من التفسخ الذي طال الحركة الوطنية، ويكاد أن يفتت الفصائل التي تكونها إلى أفراد يسعى كل منها إلى الحصول على «حمص» من المولد» الذي يتم التحضير له، من خلال التنافس المحموم على عضوية كل من المجلس الوطني واللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، بعيدا عن الاهتمام والبحث في كيفية مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية والشعب والأرض، فالمصلحة الفردية وليست المصلحة العامة هي سيدة الموقف تماما، الأمر الذي كشف عورة الحركة الوطنية وفصائلها ومستوى التردي والانحطاط الذي وصلت إليه.
وكان التأثير الأكبر لهذا القرار على حركة فتح كونها كبرى الفصائل وفي ذروة التحضير لعقد المؤتمر السابع، فالجميع في «فتح» نظر إلى الدعوة إلى المجلس الوطني بهذا الشكل، وبعد الأنباء التي تسربت عن من المستهدف بالخروج من اللجنة التنفيذية ومن سيحل محلهم، وما هي التغييرات التي يتم التحضير لها في الحركة، إذ أصبح عقد المجلس الوطني «بروفة» مبكرة لما سيجري في المؤتمر السابع للحركة وسط استمرار الاختلافات الواسعة حول عضوية المؤتمر وعددها ومن يختارها، ما أشعل كل الأضواء الحمراء والنوازع والمنافسات الشريفة وغير الشريفة، وأدى إلى تأجيل المجلس الوطني خشية من أن تظهر هذه الخلافات داخل اجتماعات المجلس، ما سيؤدي إلى منافسة محتدمة بين قيادات «فتح» من داخل اللجنة المركزية وخارجها على عضوية المجلس الوطني من ممثلي «فتح» والأعضاء الجدد للجنة التنفيذية.
وكان لقرار الجبهة الشعبية بالمطالبة بتأجيل جلسة المجلس الوطني ومقاطعتها إذا عقدت دور ملموس في الوصول إلى هذه النتيجة، وكذلك للعريضة التي وقعها أكثر من ألف شخصية وطنية من مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الفلسطيني، من بينهم أعضاء في المجلس الوطني؛ ما شكل حافزا شجع حركة فتح للتحرك، ووفّر فرصة لبلورة موقف أغلبية بين أعضاء اللجنة المركزية، ومن ثم داخل اللجنة التنفيذية، يطالب بتأجيل عقد المجلس الوطني.
أما الفصائل الهامشية وغير الهامشية التي هللت لعقد جلسة المجلس الوطني العادية أو غير العادية بمن حضر؛ فعليها أن تراجع نفسها قبل أن تخسر ما تبقى لها من شعبية ومصداقية.
وحتى تكتمل الصورة، لا بد من القول إن الدعوة إلى عقد المجلس الوطني المترافقة مع استقالة الرئيس من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وإشاعة أنها استقالة نهائية وأنه لن يرغب في ترشيح نفسه لهذا المنصب مجددا؛ مناورة أقرب إلى المقامرة، وكأن الرئيس يريد منها أن يضع الفلسطينيين وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والعالم كله أمام ما يمكن أن يؤول إليه الوضع إذا استقال الرئيس المعتدل ورجل السلام من دون معرفة خليفته أو خلفائه، ما يعني أن الوضع الفلسطيني أمام قفزة في المجهول إلى الفلتان الأمني والفوضى وانهيار السلطة، ما يأمل الرئيس بأنه سيحرك الفلسطينيين للقبول بتنفيذ ما يريد، وتليين مواقف واشنطن وتل أبيب لفتح نافذة لاستئناف المفاوضات لعلّها تقدم فرصة للتوصل إلى تسوية تحقق الحقوق الفلسطينية أو بعضا منها على الأقل.
ولعل هذا ما يفسر تصريح صائب عريقات الذي نفى فيه تفكيره في خلافة الرئيس، معتبرا أن من سيخلف الرئيس هو الاحتلال، وهذا ينطوي على قدر من الوجاهة، ولا يمكن الاستهانة به، لأن المؤسسات الفلسطينية في المنظمة والسلطة تآكلت شرعيتها بسبب عدم إجراء الانتخابات، وعدم التجديد والإصلاح، ووقف المقاومة، وفشل البرنامج السياسي وعدم تبني برنامج جديد، وجرّاء وقوع الانقسام واستمراره وتعميقه.
لم تعد هناك شرعية ومصداقية، خصوصا للسلطة التي أنشئت كوسيلة ومرحلة مؤقتة على طريق إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية، وانتهت إلى ترتيب نهائي ومجرد حكم ذاتي محدود يخدم الاحتلال، ويوفر له الغطاء لاستمرار تطبيق المخططات الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والعدوانية التي تجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الممكن، وقطع الطريق على أي تسوية تحقق أي حق من الحقوق الفلسطينية.
السؤال الآن ما هو موقف الرئيس بعد تأجيل المجلس الوطني، هل يعتبر ذلك بمثابة التراجع عن الحق فضيلة وأن الانحناء للعاصفة يُمَكّن من قيادتها، إذ يعتبر أن التأجيل نزولا عند الأغلبية السياسية والشعبية ويفتح فرصة للتحضير لمجلس وطني يكون قفزة نوعية إلى الأمام، وليس تكريسا للانقسام وتحويل المنظمة من منظمة تمثل الشعب الفلسطيني أينما كان إلى تحويلها لمجرد فريق يمثل جزءاً فقط من الشعب الفلسطيني مهما كان كبيرا، أو يركب رأسه ويمضي في الاستقالة التي يدعوه إليها الكثير من العوامل، أهمها وصول مسيرة ما يسمى «عملية السلام و»اتفاق أوسلو» إلى طريق مسدود، وإلى الكارثة التي تظهر معالمها واضحة في تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وتقطيع الأوصال والحصار والانقسام وتهميش القضية الفلسطينية بصورة لم تحدث من قبل.
من حق الرئيس أن يستقيل، ومن واجبه أن يجعل هذا الاستقالة مناسبة لترتيب البيت الفلسطيني ووضع آلية للخليفة أو الخلفاء تساعد على أن تبحر السفينة الفلسطينية وسط الأمواج والعواصف العاتية، وتكون قادرة على الوصول إلى بر الأمان.
تأسيساً على ما سبق، يمكن الآن المشاركة في التحضير لعقد مجلس وطني ليس مخصصا لتغيير بعض الأشخاص واستبدالهم بأشخاص أكثر طواعية، بل بمشاركة وطنية شاملة، وبتحضير حقيقي له، وبالالتزام بما نصّ عليه اتفاق المصالحة من «تشكيل مجلس وطني جديد بما يضمن تمثيل القوى والفصائل والأحزاب الوطنية والإسلامية جميعها، وتجمعات شعبنا في كل مكان، والقطاعات والمؤسسات والفعاليات والشخصيات كافة، بالانتخاب حيثما أمكن، وفقا لمبدأ التمثيل النسبي، وبالتوافق حيث يتعذر إجراء الانتخابات وفق آليات تضعها اللجنة المنبثقة عن اتفاق القاهرة آذار 2006، والحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية إطاراً جبهوياً عريضاً وائتلافاً وطنياً شاملاً وإطاراً جامعاً ومرجعية عليا للفلسطينيين في الوطن والمنافي».
عَقْدُ المجلس الوطني القادم فرصةٌ أخيرة لإعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل وتجديد مؤسسات منظمة التحرير بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وذلك من خلال وضع آلية لإقرار ميثاق وطني جديد وبرنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة، والاتفاق على أسس شراكة سياسية حقيقية تضمن لكل ذي حق حقه، وتعيد للقضية الفلسطينية أَلَقَها وللمنظمة جدارتها بتمثيل الشعب الفلسطيني أينما كان.
[email protected]
أضف تعليق