الشّياطين "تحرسُ" دوريس ليسينغ

كشفت أل"بي.بي.سي"وصحيفة "غارديان" البريطانيّتان في 31 آب 2015اعتمادا على وثائق حكوميّة رسميّة ،أنّ المخابرات البريطانيّة راقبت الكاتبة الرّوائيّة الكبيرة دوريس ليسينغ طيلة واحد وعشرين عاما (1943-1964) بسبب آرائها المعادية للعنصريّة والاستعمار والسّلاح النّوويّ وعضويّتها في الحزب الشّيوعيّ البريطانيّ،وذكرتا أنّ المخابرات استرقت السّمع لمحادثات الكاتبة الهاتفيّة وقرأت رسائلها الصّادرة عنها والواردة إليها ،وتتبّعت آثارها (مثل كلاب قصّ الأثر) في زياراتها للاتّحاد السّوفيتيّ وألمانيا الشّرقيّة .وكشفت الوثائق أيضا عن أنّ المخابرات راقبت زوّار الكاتبة في شقّتها اللندنيّة ، الذين كانوا من قوميّات مختلفة منهم الامريكان والهنود والصّينيّون والسّود،وأنّ بعضهم كان يمكث أيّاما في شقّتها في كلّ زيارة ، وأنّ عددا منهم كانوا أزواجا غير متزوّجين رسميّا ولذلك اعتقدت مخابرات الدّولة العظمى بأنّ أعمالا غير أخلاقيّة تجري في شقّة الكاتبة . تُرى ،هل عمل المخابرات هذا أخلاقيّ؟ ومنذ متى كانت المخابرات حريصة على الأخلاق وعلى أعراض الرّجال والنّساء مع العلم أنّ تاريخها حافل بالقصص الجنسيّة المثيرة التي تحوّلت الى أفلام سينمائيّة ومسلسلات تلفزيونيّة؟!!

دوريس ليسينغ (1919-2013)كاتبة بريطانيّة روائيّة وقاصّة وشاعرة غزيرة الانتاج،وقد صنّفتها صحيفة"تايمز" اللندنيّة في العالم 2008 في المرتبة الخامسة في قائمة ضمّت خمسين أديبة وأدبيًا من عظماء كاتبات وكتّاب بريطانيا منذ العالم 1945 حتّى ذلك التّصنيف ، ومن أشهر أعمال هذه المبدعة العملاقة: العشب يغنّي ، أطفال العنف ،الارهابيّ الطّيّب.ونالت جائزة نوبل للآداب في العام 2007 وجاء في قرار لجنة الجائزة "أنها الكاتبة الأكثر ملحميّة في التّعبير عن التّجربة الأنثويّة".

نشطت دوريس ليسينغ في سنوات الحرب العالميّة الثّانية في مجموعات يساريّة تعادي الرّأسماليّة والاستعمار، وتعرّفت من خلالها على زوجها الثّاني جوتفريد ليسينغ،الشّيوعيّ الالمانيّ المهاجر الذي افترقت عنه بعد سنوات،وانتسبت الى الحزب الشّيوعيّ البريطانيّ في هذه الفترة ثمّ تركت الحزب في العام 1956 احتجاجا على تأييده لقمع السوفييت التمرّد في هنغاريا في ذلك العالم ، ولكنّ المخابرات لم تصدّق بأنّ فراقها للحزب نهائيُّ مثل فراقها لزوجها بل واصلت التّجسّس عليها طيلة ثماني سنوات بعد الاستقالة لأنّها كانت فعّالة في مجموعة تنادي بنزع السّلاح النّوويّ.

لم تفاجئني المعلومات التي كشفت عنها وثائق المخابرات بعدما قرأت قبل سنوات الكتاب الهامّ "من دفع الزمّار-الحرب الباردة الثّقافيّة" تأليف الكاتبة البريطانيّة فرانسيس ستونر سوندرز وترجمة طلعة الشّايب الذي يحتوي على معلومات مثيرة عن عمل المخابرات الامريكيّة سي.أي.ايه في مراقبة وملاحقة المبدعين والفنّانين في العالم ،ولم تدهشني أيضا نظرا لما عشته ولمسته وعرفته في حياتنا حيث كانت هذه الأجهزة الحاكمة المطلقة في مدننا وقرانا العربيّة في البلاد كما لم استغرب ذلك بعدما قرأت روايات وقصائد لمبدعين عرب من مصر وسوريّا والعراق والسّعوديّة والأردّن والسّودان مثل روايات عبد الرحمن منيف وقصائد أمل دنقل.

ويبدو أن رقابة المخابرات للمبدعين نهج عالمي لا تخلو منه دولة سواء كانت ديمقراطيّة أو "أمّ الدّيمقراطيّة" أو "واحتها" كما أنّ عداء الأنظمة الحاكمة لحركات التّحرر والسلام ومحاربة العنصرية ومكافحة السّلاح النّووي تقليد راسخ وشائع،وأنّ الشّيوعيّة كانت وما زالت تهمة خطيرة في الدّول الديمقراطيّة وفي العام الثّالث أيضا.

يعتقد المؤمنون بوجود ملاكين مرافقين دائمين للانسان يسّجلان حركاته وحسناته وسيئاته ويراقبانه ويسمعانه ليل نهار حتّى في غرفة نومه وسريره ، ويؤمن المؤمنون والعلمانيّون بوجود شيطان سلطويّ واحد على الأقلّ لكلّ فرد منّا يراقب ويسمع ويسجّل ويصوّر أيضا ، ولكنّ لن نقول كما قال أحدهم حتّى لو كان ساخرا: المجد لله في السّماء وللمخابرات على الأرض!!