بعيدًا عمّا سيفضي إليه التنازع القانوني بين الأستاذ المحامي عمران الخطيب ومن استخصمهم في المحكمة المركزية في حيفا من أعضاء في لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل، سيبقى هذا الملف علامة فارقة في حياة هذا الجسم، الذي بات كدرع لسلحفاة كهلة، هي للدرع والدرع لها.
إقحام محكمة مدنية إسرائيلية من قبل من شُطب اسمه من قائمة المتنافسين على رئاسة الهيئة التمثيلية القيادية الوحدوية العليا للجماهير الفلسطينية، مواطني دولة إسرائيل، وضع قضية مصدر شرعية اللجنة على المحك وترك أعضاء هذه اللجنة أمام مسألة جوهرية وجودية، لا سيّما من يؤمن منهم أن لجنة المتابعة العليا هي جسم عربي يمتص شرعيته من الجماهير العربية ومنهم فقط، ولن يستقيها من منظومات حكم الدولة وخاصة من محاكمها. لقد فاجأت الدعوى أكثرية أعضاء اللجنة العليا، وإن توقعها بعضهم، سيضطرون إلى مواجهتها أو إغفالها، وهم محشورون في خانة "اليك"، ويقبّلون يد محكمة ويدعون عليها بالكسر، وحالهم كالمرتجين ظل غمامة!
يخيّل لي أن أغلبية الجماهير العربية في إسرائيل لا تشغلها قضية انتخاب رئيس لأهم هيئة قيادية خطط مؤسسوها، قبل أكثر من ثلاثة عقود، أن تمثل المواقف والأهداف والمصالح الجماعية لجماهير الأقلية الفلسطينية، وأن تعمل كجسم ينظّم ويفعّل ويوحّد ويقود النضال الجماعي الوحدوي من أجل احقاق الحقوق القومية والمدنية والمساواة والعدل الاجتماعي لأقلية تعيش في دولة لم يستسغ حلق قيادتها بلع بقاء هذه الجماهير على أرضها، ولا كيف يَقذف بها إلى مهاوي العدم. ويهيـأ لي، كذلك، أن المعركة على رئاسة هذه اللجنة،التي أنهكتها تجاذبات مللها ونحلها، وكما تتجلى فصولها أمامنا أو وراء الكواليس، تنحصر في هيئات أحزاب وحركات سياسية ودينية، بات زعماؤها، يتصرفون، وبعضهم يدرك، أنّهم على مشارف نهاية الفصل الأخير من أوبيريت الفشل وهم يستقدمون النهاية، بعزف مارشات الجنازة وموسيقى الوداع الحزين.
لست من أولئك الذين يفرحون كلما هوى عمود من أعمدة خيامنا، ولا أنام كي أحلم بخراب هياكلنا وسقوط قلاعنا، ولكنني صرخت منذ سنوات طوال وحذرت أننا ننزلق على منحدر خطير، وناديت بالصوت العالي موقظًا شيخ مينائنا الغافي ونواطير بيادرنا، وكان صوتي، يا لحسرتي، كصوت يوحنا، يضيع في البرّية ويمور في أرض الهزائم ويحترق وبخور الذبائح. واليوم أكتب صارخًا، مرة أخرى، ولست من النائحين الشامتين، ولا من سحيجة " النظام" يتحدثون بلسان إسماعيل والقلب قلب إسحق.
فما العمل؟ سيسأل عاذل وحسود أو سيتساءل خائف وغيور.
وهنالك من يحسب أننا أمام واقع لا يمكن أن نتخطاه ونغفله؛ فلا وقت للتفتيش عمّن أوصلنا إلى هذه الهاوية، ولا نفع من استجلاء أسباب تضعضع دور قياداتنا السياسية وأزمتها، فاستحقاق انتخاب رئيس لللجنة العليا للجماهير العريضة، يصرخ ويلحّ، وعلى الثلاثة والخمسين عضوًا،أصحاب حق الانتخاب، أن يختاروا رئيسًا/ مختارًا/ قائدًا/ مرشدًا/شيخًا/ ناظرًا، وبعده، لكل حادث حديث، فقد يكون بناء، وقد يصير ترميم، وقد يلحق تصويب، وقد تبقى الجماهير، وقد لا يعيش الملك، وقد يموت الحمار.. فالمطلوب الآن الآن انتخاب رئيس.. وعمّر يا معلم العمار، وعمّر خيمتنا/ لجنتنا.
وهنالك من يرى، بالمقابل، أن مرور ثلاثة عقود على إقامة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل، يحتّم إعادة النظر في مبناها، الذي فرضته معطيات وشروط لم تعد قائمة بالمطلق، وفي الأهداف التي أنيطت بها في حينه ومعانيها في أيامنا، وفي آليات عملها،المأمولة في ساعات التأسيس والممكنة في زماننا.
منا من يسأل ويتساءل، وبحق، هل نموذج اللجنة التي يحكمها دستور وضع قبل عشرات السنين وعكست نصوصه القديمة واقعًا سياسيًا واجتماعيا، ما زال ملائمًا لحياتنا السياسية الحالية؟ أو ما مدى التأثير لحقيقة اندثار أحزاب كانت ممثلة في اللجنة وتبخرت هي وبقي ممثلوها؟ أو حركات لم تكن موجودة ونتأت وهي غير ممثلة؟ أو أحزاب كانت تزن صاعًا فصارت بالكاد تزن أوقية، وما زالت على موازين اللجنة تكيل بالصاعين جزافًا أو خاوةً؟ أو ما دور عناصر المجتمع المدني، من جمعيات غير حكومية ومؤسسات تعمل كمحركات عمل حداثية ذات تأثير مباشر كبير وغير مباشر أكبر، وما يشبهها من أطر سياسية نخبوية اجتماعية إقتصادية تؤثر فيما يحصل في المجتمع وغير متواجدة في اللجنة العليا؟
يتساءل البعض فيما إذا ظل تعريف الثمانينيات للمواقف والأهداف والمصالح الجماعية لهذه الجماهير، متطابقًا مع ما تعنيه هذه القيم في أيامنا، وهل ظلت وسائل النضال التي اعتمدت في تلك السنين ملائمة لأيامنا؟ وهل صمدت هذه التعريفات والتوافقات في امتحان العمل والزمن؟ وأنا لا أتحدث عن الفوارق بالفروع، بل أقصد الأصول والقضايا المبدئية مثل، موقف تلك المركبات من العمل وسط الاكثرية اليهودية والتحالفات مع أجزاء منها، ومن حقوق المرأة ودورها في المجتمع، ومثل الموقف من تعدد الزوجات، أو الموقف من الحريات الأساسية للأفراد، ومصادر شرعية هذه الحريات، بما فيها حرية المرء على جسده وحرية العبادة والحرية من العبادة، والموقف من الدولة الوطنية، والعلاقة مع منظمة التحرير ومصير فلسطين وما الى ذلك من قضايا ومسائل طرأ على بناها، مع مضي الأعوام ووطأة الهزائم وتفكك دول وتبخر حكام وولادة قبائل ونشوء ملل وتفشي دواعش، تبديلات وتغيرات جمة.
كنت آمل أن تبادر الأحزاب لبحث جميع هذه المستجدات والمسائل، لتبني على خلاصاتها مواقف إزاء ما نحن ، كمجتمع يعيش في محنة، بحاجة إليه، وخيبتي كبيرة من الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، لأنها الأعرق والأجدر بخوض هذه التجربة ومواجهة هذه التحديات، فكلنا يعلم أنه حتى إذا انتخب السيد محمد بركة لرئاسة اللجنة العليا، وهو الأحق والأجدر والأكثر تجربةً سياسيّة، من بين جميع المتنافسين حاليًا، لن تنقذ هذه الخطوة اللجنة من ضعفها ووهنها، فمأساتها أكبر من رئيس وأخطر من موقع .
وكنت آمل أن تسمح لجنة الانتخابات بمشاركة جميع من تقدموا وترشحوا لمنصب الرئيس، وألا يتم شطب أي مرشحة أو مرشح، لأسباب فنية استقوت بدستور، لم ينشر على الملأ ولم يقرأ، وعفا عليه الزمن ، ولو فعلت لما أجبرت على مواجهة محاكم إسرائيل وعدلها، وكنت أرجو أن يتفق قادة أحزاب وحركات،على ضرورة إقامة جسم جديد، ربما لن يضم كل القيادات، لكنه سيخدم المواقف والأهداف والمصالح الجماعية لهذه الجماهير بطرق أنجع وأكثر تأثيرًا وتحصيلًا، وبالتوازي، لن يضير لو يتفق جميع الفرقاء على أن ما بقي من هذه اللجنة العليا هو حطام جسم لن يكون له دور إلّا في إعلان إضراب للجماهير، كلّما سقطت نجمة من سمائنا، أو قضمت أرض من بقايا وطن، أو في تسيير مظاهرة خجلى في أحد أيام العرب الكثيرة السقيمة! وإلى أن يتم ذلك أتأسى على ما قالته العرب: الموت مع الكل رحمة، أحقًا؟!
[email protected]
أضف تعليق