القضاء العشائري في فلسطين قديم ، وله أساس متين وقوي لا يمكن تجاهله بعكس القضاء النظامي الفلسطيني فهو يعتبر من أكثر الأنظمة في العالم تعقيداً نظراً لتعدد الجهات التي حكمت فلسطين عبر التاريخ ، وبالتالي تعدد المصادر القانونية التي يعتمد عليها القضاء النظامي الفلسطيني .
من هنا فإن دراسة القضاء العشائري والتعرف على آثاره الاجتماعية والقانونية في فلسطين أمر ضروري نظراً لازدواجية القضاء في حل النزاعات والمشاكل التي تحدث في المجتمع الفلسطيني، كما تسعى هذه الورقة البحثية إلى فهم المنطق الاجتماعي و المبادئ العامة التي تحكم القضاء العشائري وتوجهه. فما هو القضاء العشائري؟ وما هي إيجابياته وسلبياته ؟ وأين حقوق الإنسان في ظل القضاء العشائري وازدواجية القضاء ؟ وما هي الحقوق التي تُنتهك من جانب والتي تُصان من جانب آخر ؟.
يمكن أن نعزو بداية ظهور القضاء العشائري إلى مرحلة الحكم العثماني وتحديداً في منطقة بئر السبع بشكل خاص؛ نتيجة لوجود العشائر البدوية في هذه المنطقة؛ حيث اعتمد القضاة في حل المنازعات المعروضة عليهم على الأعراف والتقاليد المتوارثة، ويمكن تعريف القضاء العشائري بأنه أسلوب أو طريقة أو نهج يُلجأ إليه في حل النزاعات أو الخلافات استناداً إلى المفاهيم والقيم المتفق عليها لدى العشائر البدوية ويعتبرونها مُلزمة . أما مصادر القانون العرفي فهي : الشريعة الإسلامية ، العادات العشائرية العامة والخاصة، السوابق القضائية، الاجتهاد وخبرة القاضي .
في فترة الاستعمار البريطاني صدرت مجموعة من القوانين التي تنظم القضاء العشائري، وعلى رأسها مرسوم دستور فلسطين لسنة 1922، وخصوصًا المادة (45) منه؛ حيث نصت هذه المادة على أن: " للمندوب السامي أن يشكل بمرسوم محاكم منفصلة لقضاء بئر السبع ولما يستنسبه من المناطق الأخرى؛ ويسوغ لهذه المحاكم أن تطبق العرف المألوف لدى العشائر إلى المدى الذي لا يتنافى فيه مع العدل الطبيعي أو الآداب".
أما فترة الحكم الأردني والمصري فيرى البعض أن القوانين العشائرية لم تكن مطبقة في تلك الفترة باستثناء العشائر البدوية التي بقيت خاضعة لقانون خاص بها، وهو "قانون الإشراف على البدو لسنة1936. وبعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 قاطع الفلسطينيون المحاكم النظامية التي يديرها الاحتلال لقناعتهم بأنها مجرد أداة لتكريس الاحتلال ، وعلى أثر ذلك ، صدر قرار عن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في عمان بتاريخ 22/1/1979 يحمل رقم 924/م/912، بموجبه تم تأسيس "الإدارة العامة لشؤون العشائر والإصلاح".
نلاحظ من تاريخ القضاء العشائري في فلسطين ، أن هذا النوع من القضاء أصبح له أساس متين وقوي في المجتمع الفلسطيني بسبب الاحتلال العثماني ، البريطاني أو الإسرائيلي . حيث حاولت النخبة من أبناء المجتمع الفلسطيني أن تأتي بمنظومة خاصة بها لتسيير أمورها وحل النزاعات والخلافات الداخلية دون أي تدخل أجنبي .
وبما أن السلطة الوطنية الفلسطينية انبثقت عن منظمة التحرير الفلسطينية ، فلم تستطع أن تخرج من عباءة المنظمة بالكامل ، فقد وجدت السلطة الوطنية الفلسطينية أنه لا مجال للاستغناء عن القضاء العشائري، وأنه والقضاء الرسمي يسيران في طريق واحد، لدعم سيادة القانون والوصول للعدالة وإحلال السلم الاجتماعي. فمنذ 14 أيلول 1994، ومع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية، أعيد تشكيل "إدارة شؤون العشائر" بمرسوم رئاسي، نشر في مجلة الوقائع الفلسطينية الرسمية؛ حيث صدر بتاريخ 9/11/1994 قراراً من الرئيس ياسر عرفات، يقضى بإنشاء إدارة شؤون العشائر، بحيث تكون تابعة لمكتب الرئيس.وبتاريخ 15/3/2005، تم إلحاق "دائرة شؤون العشائر والإصلاح" بوزارة الداخلية.
بالنسبة إلى سلبيات وإيجابيات القضاء العشائري فهي عدة وتختلف من منظور إلى آخر . ولكن القضاء العشائري حتماً لا يحتكم إلى المواثيق والاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان ، لأنه يعتمد كما ذكرنا سابقاً على الأعراف والعادات والتقاليد العربية القديمة التي تعود بعضها إلى عصر ما قبل الإسلام.
من أبرز سلبيات القضاء العشائري أنه يفرض العقاب الجماعي وليس عقاب للجاني بحيث يحمل كافة أفراد العائلة المسؤولية ولا يتحملها الجاني وحده، في حين أن الملحق (البروتوكول) الثاني الإضافي إلى اتفاقيات جنيف، 1977 والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية ، وتحديداً في المادة السادسة المتعلقة بالمحاكمات الجنائية تنص في أحد بنودها "ألا يدان أي شخص بجريمة إلا على أساس المسئولية الجنائية الفردية" ، وبما أن السلطة الفلسطينية كانت قد وقعت على هذا البروتوكول ، فإن ما يقوم به القضاء العشائري هو انتهاك واضح لحق عائلة الجاني فالجريمة لا يمكن إدانتها إلا على أساس المسؤولية الفردية ، وهذا يأتي ضمن سياسة العقاب الجماعي .
المادة 15 من القانون الأساسي الفلسطيني تنص على أن " العقوبة شخصية، وتمنع العقوبات الجماعية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون". في حين تتسم العقوبات في القضاء العشائري بالصفة الجماعية ، حيث تمتد عقوبة الترحيل عشائرياً إلى أقارب المتهم حتى الدرجة الخامسة ، كما تمتد فورة الدم لتشمل ممتلكات المتهم وممتلكات عائلته على حد سواء ناهيك عن الجزاءات المالية ، والجدير بالملاحظة أن العديد من ممثلي السلطة التنفيذية وحتى بعض أعضاء السلطة التشريعية يدعمون فرض مثل هذا النوع من العقوبات . هذا يعني أن السلطة الفلسطينية شريكة في الانتهاك الذي يحصل بالحقوق ، لأنها فرضت قانوناً يمنع العقوبات الجماعية ، وفي نفس الوقت تدعم فرض مثل هذا النوع من العقوبات .
من جانب آخر فإن كثير من الأحيان حين يبدأ التدخل العشائري من اجل الوصول إلى عطوة أو هدنة، قد لا يقبل احد الطرفين في الوصول إلى اتفاق اعتقادا منه أن الحق إلى جانبه، وتقوم الشرطة باعتقال الطرفين كوسيلة للضغط عليهما من اجل الوصول إلى اتفاق عشائري، وبعد الاتفاق غالباً ما يتم الإفراج عن الطرفين دون مراعاة من هو الطرف المعتدي، ودون تحويله للقضاء ومحاسبته سواء على الحق العام أو الحق الشخصي، وبالتالي فإن نتيجة هذا ستكون انتهاك للحق العام والحق الشخصي ، كما أن هذا سيودي إلى غياب سيادة القانون ، ولا يمكن استجلاب حقوق الناس عبر أنصاف الحلول.
وفي دراسة مسحية أعدتها مؤسسة "مساواة" في أيار من العام 2015 تفيد بأن 65% من الفلسطينيين يفضلون تدخل القضاء العشائري ونسبة 35 % لا يفضلون .إن ارتفاع النسبة ناتج من عدم الثقة بالقضاء النظامي من جانب ، ومن جانب آخر فهذا يعني أن ثقافة العنف أصبحت مقبولة بشكل أكبر لدى المجتمع الفلسطيني.
يعرف جوهان غالتنغ العنف الثقافي بأنه شكل من أشكال الثقافة التي تشرعن استخدام العنف سواء كان هذا العنف مباشر أو هيكلي ، وفي حالة القضاء العشائري فإن العنف المباشر موجود حينما تكون هناك فورة الدم ، والعنف الهيكلي موجود لأن الدراسة المسحية التي سبق أن ذكرناها تثبت ذلك ، حيث أن الغالبية تتجه نحو تفضيل القضاء العشائري.
لا يمكن إنكار دور القضاء العشائري الإيجابي في حل الكثير من المشاكل في الأراضي الفلسطينية ، فعلى سبيل المثال المنطقة المسماة (H2) في محافظة الخليل لا توجد فيها مراكز شرطة تابعة لأي طرف ، مما جعل منها مرتعاً للجريمة والمظاهر السلبية وهذا يعود سببه للاحتلال الذي منع الأجهزة الأمنية الفلسطينية من ممارسة دورها في حماية المواطنين والحفاظ على أمنهم . ومن هنا وفي ظل وجود الاحتلال الذي يعرقل عمل السلطات التنفيذية ، فإنه لا يمكن الاستغناء عن القضاء العشائري بغض النظر عن سلبياته التي سبق ذكرها .
المجتمع الفلسطيني تشرب الكثير من العادات والتقاليد والثقافات منذ الحكم العثماني إلى الاستعمار البريطاني والحكم الاردني والمصري و الاحتلال الإسرائيلي وحتى يومنا هذا. ففي فترة الاحتلال العثماني تم تعزيز مفهوم الحل العشائري ولم يتم ضبطه عن قصد وكان شيوخ العشائر يعتمدون على الأعراف والتقاليد.ومن ثم جاء الاحتلال البريطاني الذي اتبع نفس الطريقة والأسلوب الذي كان أصلا يرفض تطبيقها على شعبه. وبعدها انتقلنا إلى مرحلة الحكم الأردني والمصري ومن ثم انتهى بنا المطاف بالاحتلال الإسرائيلي. ومع كل هذا أصبحنا ننقل ونلقن هذا النوع من الثقافة إلى أبناءنا ونطبقها في منازلنا ومجتمعنا.
هناك إشكالية أخرى يجب التنبه لها، ألا وهي أن القضاء العشائري غير مكتوب، بينما النظامي مكتوب ومدون. وبالتالي في حال أن المتهم أنكر التهمة الموجهة إليه يصبح بريء على عكس القضاء النظامي الذي يبحث في القضية للتحقق من براءة المتهم كما أن هناك قضايا يعتبرها القضاء العشائري جريمة ولا يوجد نص قانوني يحرمها وقد يصل الأمر إلى فرض عقوبة وغرامة تصل إلى أضعاف العقوبات القانونية وهذا يؤثر سلبا على النظام العام والسلم الاجتماعي.
يقول الكاتب الانجليزي جي كيه شسترتون " ليس الأمر هو عدم رؤيتهم للحل، بل عدم رؤيتهم للمشكلة"، وهنا تقع المشكلة ، في أننا لا نرى المشكلة . وبالتالي تقع على عاتق السلطة الفلسطينية مسؤوليات جمة في تطبيق القانون واحترام حقوق الإنسان الفلسطيني، على الأقل في المناطق التي تستطيع أن تسيطر عليها . أما القضاء العشائري فنحن نعلم أنه لا يمكن الاستغناء عنه في بعض المناطق كتلك المسماة منطقة (H2) ، ولكن في مناطق السلطة الفلسطينية فإن هذه الازدواجية ما بين القضاء النظامي والعشائري ستؤدي إلى الإخلال بالنظام العام ، وهذا سيودي تدريجياً إلى عمل اختلال بكل شيء تدريجياً سواء في الحق العام أو الحق الشخصي ، بمعنى أن هذا سيودي إلى انتهاك مختلف حقوق الإنسان التي تعهدت السلطة الفلسطينية باحترامها والتي كفلتها كل الأعراف والمواثيق الدولية .
فادي أبو بكر
[email protected]
[email protected]
أضف تعليق