"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة".. ابتسمتُ وأنا جالس على شرفة منزلي، أومأتُ إلى الجملة المطبوعة على فنجان قهوتي الصّباحيّة والمُنطبعة في ذهني؛ كرّرت قراءَتها مرّة تلوَ أخرى، كلّما امتدّت يدي إلى الفنجان لتحمله وتقرّبه من شفتَيّ، مُرتشفًا منه القهوة جرعةً بعد جرعة، آملًا ومتأمّلًا.
وبينما أنا أحتسي على مهلٍ قهوتي الصّباحيّة، تذكّرت أنّ القهوةَ لا تُشرب على عجلٍ أو على حين غفلة، كغفلة الموت مثلًا؛ بل تُحتسى على مهلٍ، بكلّ متعةٍ ورويّة، لنتلذّذ بطعمها، وطعم الحياة.. كيف لا، والحياة جميلة رغم كلّ نقائصها ومعايبها؛ فلا أحد يعرف طعم الحياة أكثر ممّن كان، ولا يزال، على قاب قوسين أو أدنى من فقدانها..!
اختليت بنفسي متلذّذًا بطعم القهوة، وكأنيّ أشربها لأوّل أو آخر مرّة.
"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة" أيّها الأعزّة.. للحياة قيمة عُليا، ونحن بدورنا بتنا لا نقدّر ونثّمن هذه القيمة، فنفقدها ونفتقدها.
يعيش مجتمعنا العربيّ في مأزقٍ حقيقيّ، تتبدّل فيه، يوميّـًا، لغتنا وتتحوّل إلى مفردات قتل وتهديد ووعيد وانتقام وعنف وطائفيّة وحقد وطمع وجشع. نفقد قيمة الحياة لأنّنا نصارع بعضنا ونسارع إلى الموت، بدل أن نسارع إلى الحياة ونصارع الموت. نعيش زمنًا تتحكّم فيه قوانين، بعيدة حتّى عن قوانين الغاب؛ نعيش شريعة الغاب، لا شريعة الخالق.
كما أسلفت وذكرت في مقالات سابقة، نفتقر إلى الأخلاقيّات، فلم تعُدْ لدينا محرّمات ولا ممنوعات؛ نقترف بحقّ أنفسنا جرائم سيئّة وخطيرة، ونلعب دور المساكين والضّحايا، ونحن أكبر الظّالمين بحقّ أنفسنا ومجتمعنا!
تحوّلنا من "ضحايا" إلى مجرمين.. حيث أصبحت حياة الإنسان رخيصة ورخيصة جدًا لدينا، بل بخسة! فكم بات من السّهل، مؤخّرًا، التّخلّص من أيّ شخص كان، في هذه الأيّام، لأتفه الأسباب وأغباها؛ فالصّغير قبل الكبير، عمرًا وقدْرًا، يملك أسلحة عديدة ومتنوّعة، ثد يستلّ سكّينًا أو سيفًا أو مسدّسًا أو بندقيّة ليضع حدًا لحياة الآخر؛ ومن الذّميم أن نسوّغ ونبيح جرائم القتل البشعة بحجج عديدة: الشّرف والثّأر والطّمع والطّائفيّة وغيرها.. نحن مجرمون، لأنّنا القَتَلة والقتلى معًا!
دعونا نرى الأمور ونحكم عليها بنظرة ثاقبة وواعية وفكريّة مغايرة ونعمل على تغييرها، من منطلق حبّنا للحياة، من منطلق إنسانيّ وأخلاقيّ ومجتمعيّ ودينيّ، بعيدًا عمّا تفرضه على مجتمعنا، اليوم، طُغمة متطرّفة ومختلفة ومتخلّفة وحاقدة؛ برؤية أقرب إلى عاداتنا ومجتمعنا وفكرنا العربيّ الأصيل.
عُدت من خلوتي بنفسي، ارتشفت ما تبقّى في فنجاني من قهوتي الصّباحيّة، أعدت الفنجان إلى الصّينيّة مبتسمًا، متفائلًا، متمسّكًا بهذه الحياة، موافقًا شاعرنا الفِلَسطينيّ الكبير، محمود درويش، بأنّ "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة".
أليس كذلك أيّها الأعزّة؟!..
(*) الكاتب صِحافيّ حيفاويّ، مدير تحرير صحيفة "حيفا".
[email protected]
أضف تعليق