قد يكون هذا الحديث سابقا لأوانه, وما زالت ريهام دوابشه وابنها احمد يصارعان شبح الموت, في غرف العناية المركزة في المستشفى الإسرائيلي, ولا يعلمان ماذا حل بهما .

لكني زرت مؤخراً قرية دوما الصغيرة, وتحدثت الى أبناء العائلة المنكوبة, ورأيت كم أناس بسطاء هم، يكتفون بالقليل ويعملون جاهدين في الزراعة وتربية المواشي. المحظوظ من الرجال يسمح له بالعمل في قطاع البناء المضني. بنى سعد بيتا صغيرا متواضعا الى جانب بيت والديه، حيث تربي والدته بعض الأغنام وتعيل زوجها العجوز المريض, والذي كان إمام المسجد سنوات حتى أكل السكري عظامه وضعف قوامه.

هذه هي عائلة الدوابشه المكافحة المسالمة . . . خطط سعد قبل وفاته لبناء مزرعة دجاج صغيره قرب المنزل, " لقد سأمت العمل في البناء خلسة ، دون ترخيص, راتب ريهام مع دخل المزرعة لا بد ان يكفينا", قال سعد لصديقه في أخر يوم عملا معا في البناء.

قد يبدو لكم هذا المشهد رومانسيا, لكن قرية دوما هي فعلا كذلك، قرية صغيره وهادئة, تقبع بين جبال نابلس وأريحا, وأهلها مثل معظم الفلسطينيين العاملين بجد لكسب لقمة العيش. يتعلمون في مدرسه حكوميه صغيرة في قلب القرية, ومنهم من يكمل دراسته الجامعية خارج البلاد او في جامعات فلسطين المتفرقة, ومنهم من يعود موظفا لحضن القرية, ومنهم من يشق طريقه الى المدينة المجاورة. أثناء زيارتي لعائلة دوابشه سالت: من سيبني هذا الحطام المحروق ؟ ,هل ستعيدون بناء البيت؟. "ان شاء الله، إذا رجعت ريهام وابنها إلينا بعد العلاج سوف نبني لهم البيت", نصف الأسرة على قيد الحياة، الحمد الله الذي نجاهم". يجب ان تدفع إسرائيل ثمن جريمتها, هذا ما قلته لنفسي, وبدأت افحص واتمحص في قانون دعم ضحايا الإرهاب في إسرائيل. حسب القانون لا يحق لعائلة الدوابشه تقديم اي طلب دعم او تعويض كضحايا إرهاب، إنهم ليسوا مواطنين في الدولة، وليسوا مؤمنين, ولا يدفعون مخصصات التأمين الوطني .

بادر عضو الكنيست يوسف جبارين الى إرسال رسالة لرئيس الحكومة, يطالب فيها بان تتحمل حكومة إسرائيل نتائج أفعال المستوطنين في المنطقة (b), حيث احتلت أراضي "دوما" قبل خمسين عاما, والمسؤولية الأمنية تقع فيها على عاتق إسرائيل.

ان الأوان ان تدفع إسرائيل ثمن إرهاب المستوطنين المنتشرين كالكتل السرطانية على ارض فلسطين، حسب القانون والشرائع الدولية. هذه المبادرة جيدة, فيها تلميح لخطوة عملية نادرة الوجود لتعاطينا مع الاحتلال ونتائجه. أنهم نفس المستوطنين الذين تعوضهم الدولة عن أي خسارة, في حال وقوعهم ضحايا الإرهاب ,كما يدعون ، حتى اذا تعرضوا لحالات هلع, وهذا يعد كافيا لدعمهم وعلاج عقدهم النفسية, كنتيجة غير مباشره لتعرضهم لعمليات العنف او غيرها. لا يهم أين تواجدوا, في داخل إسرائيل او في الضفة الغربية, حتى اذا كان يتنزهون في افريقيا !. وبمناسبة ذكر إفريقيا, سالت نفسي: ماذا حل بالسياح اليهود في بومباسا الكينية, حيث قتل اثنين من اليهود وعشرة أفارقه, وجرح ثمانون كينيا محليا ؟. وجدت ولم أتفاجئ طبعا ، ان اليهود هناك اعترف بهم كضحايا إرهاب, لان التفجير كان موجها لمنتجع سياحي, يقصده ويملكه إسرائيليون, اما من قتل من المحليين العاملين هناك لخدمة اليهود في فندق براديس, لا بد ان نسميهم "ضحايا الاقتراب", فقد قتلوا لأنهم تواجدوا بقرب يهود وفي خدمتهم، ولكن لم تعترف بهم دولة اسرائيل ضحايا ارهاب، كما اليهود اللذين لقوا مصرعهم قي نفس التفجير.

وفي قرية دوما, قتل علي وسعد الدوابشه, وهما نائمان في البيت, ولم يؤذوا أحدا, فهما وقعا ضحية الاحتلال من الطراز الاول , "ارهاب اليهود" باسمه الجديد.

هيا لنتخيل, ماذا يحدث اذا وقف مستوطن وفلسطيني على الرصيف في احد شوارع الضفة الغربية, وأصيب الاثنان في حادث دهس مثلا؟. فحسب القانون الإسرائيلي, فان اليهودي ضحية إرهاب على خلفية قوميه, اما العامل الفلسطيني فهو ضحية لحادث طرق عرضي, وحتى هناك احتمالات قوية بان توجه اسرائيل تهمة التعاون مع الإرهابيين, حيث وقف هناك ليدل على المستوطن المستهدف!.

هذا هو القانون اليوم الذي لا يترك لعائلة الدوابشه اي منفذ, إلا ان يرق قلب وزير الداخلية, ويعتبرها ضحية للارهاب, ويقوم بالتعويض عن الخسائر. وفي ظل الحكومة الفاشية الحالية, لا يوجد وزير يرغب بفتح أبواب جهنم على نفسه في هذا الموضوع .

بعد ان سدت هذه الطريق في وجهي، قمت بفحص قانون الأضرار والتعويضات الذي يعتمد الخسائر الماديه فقط، وهنا أيضاً لا نستطيع فعل شي, كما شرحت لي محاميه من جمعية "مراقبات الحاجز", فيما ان قوات "حفظ الأمن" الممثلة بالجيش لم تلق القبض على متهمين, فلا يوجد ممن نطلب دفع الخسائر، وهكذا رجعنا الى المربع الاول من النقاش والمطالبة الحتمية من حكومة نتياهو الاعتراف بهم كضحايا .

زارت الأسبوع الماضي نخبة من الحقوقيين العرب في الداخل الفلسطيني, بالتنسيق مع عضو الكينيست جبارين عائلةً الدوابشه في المستشفى, دعما وتضامنا معها في مصابها الأليم، خطوة مباركة طبعا, وحبذا لو تتحول هذه الزيارة لخطة عمل ونضال قانوني شرس, من اجل تحصيل حق هذة العائله بالحصول على تعويض ضحايا الإرهاب والاحتلال .

احتلال الأراضي الفلسطينية لا يرى بريق امل في الانتهاء، وكما كانت تقول جدتي: ان اليهود يتألمون من كيسهم فقط. قد تكون الخطة الأمثل لمقاومة الاحتلال, ان تبدأ اسرائيل بدفع ثمن أضرار الاحتلال الضخمة، فينتبه دافع الضرائب لثقب جديد في جيبه, سببته سياسة الحكومات المتهافتة على الاستيطان وتنتهجه سياستها المعلنة.

بينما يتضامن البعض ويشجب البعض الآخر " الإرهاب اليهودي", ما زال يدفع الزوار من أسرة دوابشه المنكوبة 250 شيكل, لقاء سيارة أجرة من الحاجز الى تال هاشومير في كل اتجاه، هذا المبلغ هو اجر عامل عمل عشر ساعات في البناء, اما ثمن وجبة الماكدونلاز في المجمع التجاري في داخل المستشفى يسبب المغص لكل من يشتريها, وذلك من دون الإضافات وتكبير الوجبة, ولا يجرؤ احد على التفكير حتى بتكاليف العلاج المضني والمعقد, الذي سيستمر أسابيع وأشهرا طويلة .
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]