يقف المجتمع الفلسطيني في البلاد على اعتاب نهاية فترة الاعراس وبدء التحضير لموجة الاعراس في العام القادم. يسلط هذا المقال الضوء على حالة اجتماعية تتعلق بجميع افراد ومركبات المجتمع الفلسطيني بالاعتماد على اطار مفاهيمي تاريخي اجتماعي نظرا لما تشغله هذه الظاهرة من أهمية ومكانة في حياة الفلسطينيين، فلا بد من مناقشة ظاهرة "العرس الفلسطيني" وفهم المركبات والعوامل التي تحدد هذه الظاهرة.

مرّ المجتمع الفلسطيني في الداخل بصيرورة تطور سريعة على مدار اعوام ومنذ احداث النكبة الفلسطينية عام 1948، وتضاعف عدد الفلسطينيون في البلاد ما يقارب ثمانية اضعاف خلال العقود الماضية، وتحولت القرى والبلدات العربية من صغيرة الى بلدات وقرى أكبر وزاد عدد السكان الفلسطينيون، وبغض النظر عن أهمية النقاش حول سياسة تغييب مظاهر ومميزات التمدن (Urbanization) المتعمدة للقرى والبلدات العربية من قبل الحكم الاسرائيلي كصيرورة طبيعية متصلة بعملية الحداثة والعصرنة (Modernization) التي تميز المجتمعات والدول الحديثة، وبالرغم من أن الضبط المكاني والجغرافي كان أحد أسباب منع التواصل الجغرافي بين البلدات والقرى العربية، هدفت السلطات الاسرائيلية ايضا منع ظاهرة التمدن وحالت يبن تحول القرى والبلدات العربية الى مدن ليسهل ضبطها.

تاريخيا شهدت الاعراس الفلسطينية حضورا سيميائيا للحيز الثقافي، فنظرا لصغر حجم المجتمع الفلسطيني أولا وبالتالي قلة الاعراس من جانب اخر شهدت بعض البلدات والقرى العربية عشرات الاعراس حيث سهل التواصل بين ابناء القرية الواحدة وعادة ما اقتصرت هذه الاعراس على ابناء القرية والبلدة الواحدة، فالظروف الاجتماعية ساهمت في تعميق العلاقات في البلدة والقرية العربية التي ميزت المجتمع الفلسطيني واقتصرت على الاهل والجيران وبعض الاقارب، بالإضافة الى ان المجتمع الفلسطيني كان بغالبيته الساحقة ريفيا ساده انذاك حالة من التقشف –ان صح التعبير- فكما هو معلوم بان المجتمع الفلسطيني بغالبيته كان مجتمعا فلاحيا اعتمد على الارض والزراعة في تعاريج حياته، وبناء عليه اقتصرت الافراح على مصاريف وتكاليف أقل في كل ما يتعلق بالعرس من تقديم الضيافة وتجهيز العرس والزوج وغيرها من التقاليد المتعلقة بالعرس.

وبالمقارنة مع الحقبة التاريخية الماضية حيث تميز المجتمع الفلسطيني بان عدد سكانه قليل وبناء عليه كانت الاعراس معدودة واقتصرت على التواضع والزهد والتقشف، نشهد في الآونة الاخيرة ازدياد في عدد الأعراس وبغض النظر عن النظرة الاجتماعية الايجابية وهي لا شك كثيرة للعرس الفلسطيني ومنها توطيد العلاقات والاواصر الاجتماعية والعقد الاجتماعي وغيرها، ولكن نظرة تاريخية بسيطة تؤكد بان المجتمع الفلسطيني تضاعف بشكل ملموس وهذا يعني حتما بان عدد الاعراس ازداد بشكل مضاعف مما يثقل على كاهل الفرد لا سيما في مجتمع جماعي كالمجتمع الفلسطيني.

يعبر "العرس الفلسطيني" عن فشل نظرية الحداثة في فهم وتفسير مراحل تطور المجتمع الفلسطيني وينعكس ذلك في عملية العصرنة والحداثة الجزئية التي مرّ بها المجتمع الفلسطيني خلال مراحل تطوره، فعلى عكس المتوقع من عملية الحداثة والعصرنة التي تؤثر في صياغة قوالب مجتمعية ونتنج هويات فردية تتصارع مع الهوية الجماعية التي تميز الداخل الفلسطيني، فعملية الحداثة التي مرّ بها المجتمع الفلسطيني أحدثت تغييرات في جوانب معينة وعززت من البنى التقليدية في جوانب عديدة أخرى داخل المجتمع.

يعكس "العرس الفلسطيني" من جانب اخر مدى التناقض والتوتر القائم والمأزوم بين علاقة الفرد بالمجتمع، وبين تقديم المصالح الفردية على المصالح الجماعية، فبعض المظاهر الاجتماعية التي ترافق الاعراس الفلسطينية تحولت الى عادات سيئة تسبب بأضرار للحيز العام والخاص وحقوق الافراد على حد سواء، فإغلاق الشوارع على سبيل المثال لعدة ايام في الاعراس هو اعتداء على الحيز العام وكذلك استخدام مكبرات الصوت والالعاب النارية واستخدام السلاح هو اعتداء على الحيز العام وعلى حقوق الافراد في التنقل وفي الراحة والخصوصية والوقت.
يصم الناس العلاقات الاجتماعية هذه بـ "المجاملة" وهي المشاركة الاجتماعية الفعالة وهي في العادة مظاهر اجتماعية تعزز وتوثق العلاقات والروابط الاجتماعية، وفي ذات الوقت يشكوا كثير من الناس من سيطرة الصبغة الجماعية بحيث انها أصبحت تقيد حرية ورفاهية الافراد، فبعض المسائل يشكو الناس ويخجل معظم الناس منها، فعلى سبيل المثال تحول "النقوط" الى عبئ اجتماعي على العائلات ذات الدخل المتوسط والمحدود، والحديث يدور يوميا وفي القرية الواحدة عن عشرات الاعراس ومنهم الاقارب والمعارف والاصدقاء وغيرها من الالتزامات للجماعات الاجتماعية التي من الواجب مشاركتها ومجاملتها، والمجتمع الفلسطيني يعاني من ضائقة اقتصادية كبيرة جدا مما يساهم في زيادة الاعباء ولربما الاقتراض او الهروب من بعض الاعراس نتيجة للعجز الاقتصادي، فتتحول الاعراس من عقد اجتماعي وروابط اجتماعية ايجابية ومظاهر الفرح الى ضرر يسيئ للعقد الاجتماعي ولحقوق الافراد والحيز العام.

بات من الواجب عدم اهمال الجانب الاجتماعي على حساب السياسي، فغالبية مركبات المجتمع القيادية والحزبية والسياسية منشغلة ومنهمكة في الجانب السياسي وتهمل القضايا الاجتماعية وخاصة ظاهرة الاعراس لما لها من مكانة خاصة وحصانة في المجتمع الفلسطيني، فهناك ضرورة لإجماع من كافة مركبات المجتمع الفلسطيني على ادخال تغييرات وتعديلات أو تهذيب بعض المظاهر الاجتماعية المؤرقة ومنها الاعراس لعدم التسبب لاعتداء على الحيز العام وحقوق الافراد ولمنع تحول جزء من الافراح الى حالات تشرذم وعنف. ويمكن ايجاز مجموعة من الحلول لتهذيب "العرس الفلسطيني" ومنها: بلورة مفهوم واسع للانتماء عبر اعراف مقبولة على الجميع، وتذويب المصلحة الشخصية بالمصلحة العامة، والتنشئة الاستراتيجية للأجيال، ومراعاة حاجة الافراد ورفاهيتهم.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]