جاء متأخراً، بل متأخراً جداً، هذا الاعتراف الساذج من قبل البيت الأبيض، من أن هناك تدخلاً في الشأن الأميركي من قبل إسرائيل، الاعتراف بأمر معروف للجميع وباعتراف الجميع، باستثناء البيت الأبيض على مر كافة الولايات الرئاسية، ديمقراطية وجمهورية، جاء مؤخراً على لسان الرئيس الأميركي باراك اوباما في المقابلة التي أجرتها معه شبكة «سي. إن. إن» «عندما قال إنه «لا يتذكر زعيم دولة أجنبية تدخل في شؤون السياسة الخارجية الأميركية بالقوة التي يتدخل فيها اليوم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فيما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران» اعتراف مفاجئ، بل ربما كان اعترافاً شجاعاً غير مسبوق، والدليل أن الإعلامي فريد زكريا الذي كان يجري المقابلة مع اوباما، أعرب ـ من خلال علامات وجهه بعدما سمع هذا الكلام ـ عن دهشته لشجاعة اوباما هذه، وربما اعرب عن دهشته، «لصفاقة» اوباما، هذا الذي تجرأ وتناول «المقدسات» بما هو عيب وما هو مدان!!
ولعلّ تلك الدهشة التي ارتسمت على محيّا فريد زكريا، بعدما سمع هذا الاعتراف، هي التي جعلت اوباما يعود من جديد، لتكرار «اللازمة الأميركية» التي تتردد عن غيب كأنشودة أو كنشيد وطني أميركي، بالحديث عن العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتزام أميركا المطلق بأمنها. لكن «اللازمة الأميركية» التي لا يجرؤ أحد على إنشادها، أن إسرائيل تعتاش على أميركا، وأن وجودها وأمنها وتفوقها اقتصادياً وعسكرياً رهن بالمساعدات الأميركية، مع ذلك، فهي تتجسس على اليد التي تطعمها وتنقذها من ورطاتها المتكررة، وحتى انها تبيع في الخفاء الأسرار التكنولوجية الأميركية، لمنافسي أميركا، كالصين مثلاً، وحتى عند اكتشاف ذلك، لا أحد يجرؤ على أن يرفع اصبعه في وجه إسرائيل، وها هي «ايباك» تنفق 40 مليون دولار على حملة إعلانية في 35 ولاية أميركية لمعارضة الاتفاق النووي بهدف حشد أغلبية الثلثين في مجلسي النواب والشيوخ ـ الكونغرس ـ لتجاوز الفيتو الرئاسي المحتمل، إضافة إلى تمويل دعوة 58 عضواً من مجلسي النواب، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى إسرائيل للاستماع إلى مبررات نتنياهو ليس فقط تجاه موقفه المعارض للاتفاق النووي مع إيران، ولكن تبريراته، إذا لزم الأمر، للتدخل السافر المعلن في الشؤون الداخلية للسياسة الخارجية الأميركية، سواء قبل التوقيع على الاتفاق أو بعد ذلك، مع الحرص على «استضافة» اكبر عدد من الحزب الديمقراطي، حزب اوباما، للتأثير على قناعاتهم والتصويت ضد رئيسهم والتزاما بالموقف الإسرائيلي الذي يتبناه نواب الحزب الجمهوري.
باراك اوباما، الذي يحاول أن يسجل إنجازات تاريخية إبان الولايتين في البيت الأبيض، إعادة العلاقات وفتح صفحة جديدة مع كوبا، والتوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، في الواقع، هما بديلا فشله في تحقيق إنجاز تاريخي حقاً، بالتوصل إلى حل نهائي على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، اندفاع اوباما، نحو الملف الإيراني، شكل من اشكال التعويض عن الملف الأهم، والذي تصدّى له نتنياهو بكل قوة وإلحاح، منذ كانا على سدة الحكم سوية عام 2009 وملاحقة نتنياهو لاوباما على الملف النووي، هو اصرار له طابع شخصي، ايضاً، على إيذاء الخصم، دون تجاهل الأسباب الأكثر أهمية على هذا الصعيد، من هنا يرى بعض العارفين بالشؤون الأميركية، ومنهم ارون ميلر الذي كتب في «واشنطن بوست» أن اوباما اصبح اكثر واقعية حول فرص التوصل إلى سلام على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، إلاّ أن ذلك لا يعني تخليه عن هذا الملف، وإذا ما تحقق وتم إقرار الكونغرس على الاتفاق النووي الإيراني، فإن ذلك سيشجع اوباما على ان يقارع نتنياهو خلال الفترة المتبقية من ولايته الثانية على خلفية، هذا التاريخ بينهما من خصومة معلنة ومكايدة مكشوفة.
وقول على قول، فإن بعض مقربي نتنياهو، وحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، يتهمون إدارة اوباما، بأنها خلف المبادرة الفرنسية التي تسربت من بين أيدي الاليزيه ووزير الخارجية الفرنسي فابيوس، والتي رفضتها إسرائيل جملة وتفصيلاً، يقال بهذا الصدد إن فرنسا تعلم أن مبادرتها في مجلس الأمن لن يكتب لها النجاح بدون تأييد أميركي، وان واشنطن التي قالت إن الانشغال بالملف النووي الإيراني، يفرض على فرنسا تأجيل طرح مبادرتها إلى ما بعد المصادقة على الاتفاق النووي، هو شكل من أشكال التأييد لهذه المبادرة التي اعتبرتها إسرائيل إملاء عليها، وانها ـ المبادرة ـ تنطوي على استبدال المفاوضات الثنائية، بدور عملي لمجلس الأمن.
الشكوك الإسرائيلية حول دور أميركي في صياغة المبادرة الفرنسية، أو على الأقل تأييدها ضمناً، هو أحد الأسباب التي تضيف مبررات لنتنياهو للوقوف في وجه التصديق على الاتفاق النووي الإيراني، لأن معنى ذلك هو تفرغ واشنطن لدعم المبادرة الفرنسية، خاصة وان إدارة اوباما أعلنت بوضوح، أن تأييدها لإسرائيل في المحافل الدولية لم يعد أمراً أوتوماتيكياً.. ما يخشاه نتنياهو أن نجاح اوباما على الملف النووي الإيراني، سيجعله أكثر قدرة على فرض رؤيته «الفرنسية» على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي!!
[email protected]
أضف تعليق