عندما تستحوذ السلطة، (أي سلطة)، على كل شيء، نكون أمام إقصاء المجتمع، ونفي السياسة، وتغييب الحوار المجتمعي، وتحويل البرلمانات والانتخابات وتعدد الآراء والأحزاب والصحف والنقابات.... إلى ديكور لتزيين الاستبداد وزخرفة الخطاب الوهمي لحل معضلات المجتمع الحقيقية.

أما عندما تعطي السلطة الاستبدادية الانتماء الديني الافضلية القانونية، وبالتالي الحقوقية، فبداهة أن نكون أمام التهام سلطة الدولة وانطفاء المواطنة على يد سلطات رجال الدين والطائفة والمذهب، خلافاً للمعنى الحديث لعلاقة السلطة بالدولة التي تجسد فكرة تساوي الحقوق وتساوي الواجبات بين مواطنيها بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية...الخ، وهو المعنى الذي استلهمه مصطفى كمال، (أتاتورك)، لبناء جمهورية تركيا الحديثة بديلاً لنظام الملة والسلطنة العثماني الذي يشتق منه حزب «العدالة والتنمية» بقيادة أردوغان كثيراً من تصوراته لعلاقة السلطة بالدولة والمجتمع، ولعلاقة تركيا بالمنطقة، بما يعيد تركيا إلى ما قبل النقلة التاريخية التي أحدثها أتاتورك،

وبما يصب الحب في طاحونة دول الاستعمار والإمبريالية الغربية، التي عملت، ولا تزال، (وتخدمها الرجعيات والديكتاتوريات العربية)، على ترسيخ وإعادة انتاج إرث النظام العثماني في واقع المنطقة العربية، بوصفه أداة من أدوات السيطرة عليها واستتباعها ونهب ثرواتها، وعائقاً أساسياً في طريق بناء الدولة المدنية الديمقراطية.

هنا يكمن سر تشبث أردوغان، (الشخص والحزب والحكومة) بسياسته الاستبدادية، داخلياً، والعدوانية، خارجياً، ذلك حتى بعد تبدد أحلامه الأيديولوجية في أن يصبح سلطانا لتركيا والمنطقة، ورغم خسارة حزبه فرصة تشكيل حكومة بمفرده كما فعل منذ العام 2002، بل، وخسارة تركيا فرصة واقعية لحل المسألة الكردية حلاً سياسياً، ودخولها في حالة عداء مع جوارها العربي القريب والبعيد، وفي تشاحن مع بعض محيطها الإقليمي، وفي عزلة دولية، اتصالاً باتهامها من دون تعسف، بل بالوقائع والمنطق معاً، أنها أكثر دول «الأقليم» دعماً ورعاية لعصابات الإرهاب التكفيري، و»داعش» و»النصرة» منها بالذات. ماذا يعني، وما أهمية، وإلى ماذا يحيل، الكلام أعلاه؟

ما أن انطلق الحراك الشعبي العربي بما فتحه من أفق جديد لتغيير تاريخي، في صلبه تصويب علاقة الدولة بالسلطة، وإنهاء ما يوازي سلطة الأولى من سلطات دينية وطائفية ومذهبية، بحيث تصبح الدولة مرجعاً للسلطة، وإنهاء عقود من سيطرة سلطة الفرد أو الحزب أو الجماعة على الدولة، حتى دخلت تركيا الأردوغانية على خط هذا الحراك، تحركها أحلام وأطماع عثمانية جديدة، وتحالفات متينة مع حركات «الإسلام السياسي» العربية، خصوصاً جماعة «الإخوان»، التي يجمعها وحزب أردوغان اسلتهام النظام العثماني لاشتقاق تصورات إدارة الدول، وعدم التورع عن استخدام عصابات «الجهادية السلفية»، ما يعني أن الخلاف بين الطرفين يدور حول وسائل بلوغ الهدف المشترك، («أسلمة المجتمع»)،

وما علاقة تقاطع المصالح القائمة منذ أربع سنوات ويزيد بين تركيا أردوغان وجماعة «الإخوان»، من جهة، وعصابات «داعش» والنصرة» و»أخواتها» من جهة ثانية، إلا دليل آخر على أن حركات وسلطات «الإسلام السياسي» الموصوفة، (دون تمحيص)، بــ» الاعتدال»، تتمسك في الباطن، (خلافاً للظاهر)، بتصورات نظام يرفض توحيد ومساواة أتباع الأديان والطوائف والمذاهب المختلفة كمواطنين، ما يطرح سؤالاً كبيراً هو: هل تسعى حركات وسلطات «الإسلام السياسي» إلى مجرد «تديين ومذهبة السياسة»، أم تسعى أيضاً إلى «تسييس الدين وتوظيفه»؟!

السؤال شائك ويحتمل تأويلات مختلفة، لكنه في الحالات كافة يحيل إلى أننا لسنا أمام سلطات وحركات تغيير اجتماعي، (فما بالك بالثوري)، بل أمام قوى سياسية تتوسل أيديولوجيا «الإسلام السياسي» وتستخدمها وتستثمر فيها بهدف التفرد بالسلطة والسيطرة على مفاصل الدولة وسلطتها، وهو ما يفضي، تقدم الأمر أو تأخر، بصورة نسبية أو مطلقة، إلى انطفاء المجتمع والمواطنة والسياسة، كحالة دخلتها تركيا بقيادة أردوغان وتحذر من تكريسها أحزاب المعارضة التركية على اختلافها، بينما حال قِصر عمر سلطة «إخوان» مصر دون أن تلقى الأخيرة ودول عربية أخرى المصير ذاته، ما يفسِّر خسارة حزب أردوغان للانتخابات الأخيرة،

وسرعة خسارة «الإخوان» للسلطة في مصر، وتراجع شعبيتهم في أكثر من دولة عربية، حيث لم ينفع ما يطلقه قادة حزب أردوغان وجماعه «الإخوان» من شعارات حول «العدالة والتنمية» و»الحرية والعدالة»، بل والديمقراطية والثورة والحداثة أيضاً، كشعارات مضللة تساهم في تسويقها دول (الديموقراطيات «الغربية») بقيادة الولايات المتحدة، ولمَ لا؟ طالما أن ذلك يحقق لها المصالح ذاتها التي يحققها تسويق ضلالة اعتبار عصابات «الجهادية السلفية» حركات «ثورة» أو معارضة «معتدلة»، بما يعيد للذاكرة الهدف من وراء تسويق كذبة اعتبار إسرائيل، دولة الاحتلال العنصرية العدوانية التوسعية، «واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة».

على أية حال، يستعيد كثيرون حكمة «من يزرع الريح يحصد العاصفة»، اتصالاً بتراجع شعبية «الإخوان» وحزب أردوغان، واتصالاً بمعطيات تؤكد وجود علاقة تفاهم ضمني بينهما وبين عصابات «السلفية الجهادية»، بينما يكفي اعتماد التحليل المنطقي لتأكيد علاقة تركيا الأردوغانية بعصابات «داعش» و»النصرة» و»أخواتهما»، إذ يصعب، بل يستحيل، دخول عشرات آلاف الإرهابيين التكفيريين من أربعة أركان المعمورة إلى العراق وسورية من دون سماحٍ أو تغاضٍ تركي رسمي، ولا يُعقل أن ينجحوا في تهريب النفط والغاز والقطع الأثرية من دون تسهيل من تركيا الرسمية، ناهيك عما بين الطرفين من مصلحة مشتركة لإسقاط النظام السوري، ومحاربة قوات «الحماية الكردية»، امتداد حزب العمال الكردستاني التركي» في سورية، فيما ثمة تصريحات كثيرة، بينها «غربية» أميركية وأوروبية رفيعة المستوى، عدا تقارير أصدرتها الأمم المتحدة، تشير، ضمناً أو صراحة، إلى وجود هذه العلاقة، وإلى أن «معونات الأسلحة والذخائر المقدمة للمنظمات الإرهابية المتشددة في سورية يتم إرسالها عبر تركيا».

ما يعني أن ثمة في تركيا بنية تحتية للإرهاب، انكشف أمر علم حكومة حزب أردوغان بها، عندما أقدمت أجهزة الأمن التركية على اعتقال المئات من أنصار تنظيم «داعش» والمتعاطفين معه في مدن تركية مختلفة بعد هجوم «داعش» الانتحاري في بلدة سروج.

لذلك كله، وعليه، من المبالغة القول إن تغييراً إستراتيجياً قد حصل على علاقة تركيا أردوغان وجماعة «الإخوان» بعصابات «الجهادية السلفية»، وأخطرها «داعش»، لمجرد ما شنته تركيا من غارات على مواقع «داعش» في شمال سورية، ذلك لأسباب أساسية، أولها أن هذه الغارات جاءت في إطار رد الفعل على مذبحة بلدة سروج. أما ثانيها، (وهو الأهم)، فيتمثل في أن الغارات التركية تتركز على مواقع حزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق، ومواقع حليفه قوات «الحماية الكردية» في شمال سورية، ناهيك عن حملة الاعتقالات والملاحقة لأعضاء ونشطاء «حزب الشعوب الديمقراطي التركي»، (الذراع السياسية لحزب العمال)، ولأعضاء أحزاب يسارية تركية أخرى، وعن تجديد الحديث عن «منطقة آمنة» في شمال سورية لمساندة وتدريب وتعزيز دور ما يسمى»المقاتلين السوريين المعتدلين» الذين بات سلاحهم بيد عصابتيْ «داعش» و»النصرة»، ولا يتجاوز عددهم العشرات، حسب المخابرات الأميركية، بينما تزعم المخابرات التركية أنهم بالآلاف، وأن بوسعهم محاربة «داعش» والجيش السوري في آن واحد.

قصارى القول: الرهان الزائد على دور تركيا أردوغان في محاربة عصابات «السلفية الجهادية»، يتجاهل، بوعي أو بجهالة، أهمية ورقة عصابة «داعش»، وأصلها عصابة النصرة، وأخواتهما» بالنسبة لتركيا الأردوغانية، بل ويتجاهل أن الأكراد، لا «داعش»، هم هدف الغارات الجوية التركية، لكن على رغم ذلك، لا تسرَّع، وليس شماتة، القول: إن السحر قد انقلب على الساحر، وإن تركيا أردوغان التي لعبت دوراً أساسيا في زرعٍ ريح عصابات «داعش» و»النصرة» و»أخواتهما» في تركيا وسورية،

لتحقيق أحلام وطموحات عثمانية جديدة، داخل تركيا وخارجها، تحصد الآن عاصفة تذرو هذه الأحلام والطموحات، ذلك ببساطة لأنها أحلام وطموحات استبدادية وعدوانية، والأهم لأنها غير واقعية، وغير منطقية، ويجدر ركْنها في متحف للعاديات، اتصالاً بأن أصلها، نظام الملل والطوائف والسلطنة العثماني، قد تجاوزه العصر والتاريخ، ولن يجني إصرار حزب أردوغان وجماعة «الإخوان» على إحيائه إلا الخيبة وتراجع الشعبية والمزيد من الإرهاب التكفيري الذي يضرب في المنطقة منذ أربع سنوات، وكان من الطبيعي حدَّ البداهة أن يضرب في تركيا وحليفتها السعودية، وفي غيرهما من الدول العربية والإقليمية والعالمية، التي رعت، ولا تزال، لمصلحة آنية، أو لحسابات بعيدة المدى، إنما خاطئة، عصابات «السلفية الجهادية».

إنه انقلاب السحر على الساحر، على غرار انقلاب أصل «داعش»، عصابة «طالبان» الأفغانية» ورديفها تنظيم «القاعدة» على رعاتها الأميركيين والباكستانيين والسعوديين، وكانت الذروة في «غزوة» بن لادن لنيويورك وواشنطن ومنهاتن في 11 أيلول 2001، لكن تركيا أردوغان وجماعة «الإخوان» لم تتعلما كما ينبغي من درس «القاعدة» و»طالبان» مع أميركا والسعودية والباكستان. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]